نشرت جريدة الحياة الاسبوع الماضي مقالاً للأستاذ جمال خاشقجي تحت عنوان "هل هناك ما هو أسوأ من هذا" كتب بلغة مليئة بالعاطفة تجمع بين الاستياء الشديد تجاه التدخل العسكري الروسي في سوريا، وبين الرغبة الجامحة لتحرك سعودي سريع لمواجهة ما وصفه بالتحدي الأكبر المتمثل في المشروع الإيراني بدعم روسي سينتهي في حال انتصاره إلى احتلال إيراني لسوريا "تنشر فيها التشيع، تهجّر إليها من تشاء وتهجّر مِنها من تشاء". وحيث أن الحكم بهذه النتيجة سابق لأوانه فسأكتفي هنا بالتعليق على ما تضمنه المقال من أفكار حول التحرك السعودي لمواجهة هذا التحدي الأكبر.

ولكن وقبل ذلك لابد من الاعتراف بأن العاطفة التي كُتب بها المقال إنما تعبر عن مشاعر الغالبية من المتابعين وهم يرون الطائرات الروسية تضرب المعارضة دون تمييز في محاولة مستميتة للدفاع عن النظام السوري الذي ظهر إنهاكه الشديد خلال الأشهر القليلة الماضية.نعم الجميع مستاء وقد يكونوا معذورين في تصوير ما يحدث في إطار التآمر بالنظر إلى الإعلان صراحة عن تنسيق روسي إيراني وبترحيب من نظامين في سوريا والعراق فقدا استقلاليتهما وأصبحا تابعين يدوران في فلك مخطط شرير رسمه الحرس الثوري الإيراني.

وأمام هذا التحدي وهذا الخطر الذي يواجه الأمة أجمع فالدعوة لتحرك عاجل أمر مشروع وتوجيه هذه الدعوة ابتداءً من المملكة أمر متوقع بالنظر لمكانتها في العالمين العربي والإسلامي. ولكن وهنا أرجو أن يسمح لي الأستاذ خاشقجي بالاختلاف معه ولعلها فرصة نفتقدها لمناقشة السياسة الخارجية السعودية خاصة في هذه المرحلة الحرجة والتي تستوجب النظر والإمعان في الأحداث وتبادل الرأي الذي يمكن أن يصبح ضمن المدخلات في عملية المفاضلة بين البدائل التي يجريها المسئولون عن السياسة الخارجة السعودية لمواجهة هذه التحديات والأحداث المتسارعة.

الأستاذ خاشقجي طرح عدة بدائل أمام صانع القرار تبدأ ب (1) تحرك دبلوماسي لتشكيل موقف عربي يؤسس لموقف دولي(2) التواصل مع الإدارة الأمريكية ولومها وتحميلها المسؤولية بسبب "تخاذلها" واقتراح مشروع تحرك مشترك لدعم المعارضة السورية على شاكلة ذلك الذي قدم للمجاهدين&الأفغان (4) دعم للمقاومة وأخيراً والأبرز (5) تدخل مباشر بعدما تطمئن أن خاصرتها الجنوبية بخير، فتترك " اليمن لليمنيين وتمضي شمالا لتخليص سوريا من القبضة الإيرانية" -حسب تعبيره.هذه بدائل مطروحة أمام صانع القرار في المملكة يتخذ منها ما يراه مناسباً بعد إجراء عملية مفاضلة تحدد المكاسب والمخاطر لكل بديل.

ولاشك أن عملية المفاضلة لن تكون سهلة لسببين على الأقل؛ أولهما أن بعض المكاسب والمخاطر ذات طبيعة معنوية يصعب قياسها ومن ذلك الموقف الداخلي وخاصة من القيادات الدينية والتي بدأت في التعبئة والحشد ضد المؤامرة "الغربية الشيوعية الصفوية النصيرية" كما جاء في بيان نشر مؤخراً والتأثير المؤكد لهذه القراءة على التعبئة والحشد للشباب السعودي وخلق أجواء شبيهة بالأجواء التي سادت في الثمانينيات أثناء الجهاد الأفغاني. أما السبب الثاني فهو أن التدخل الروسي جعلنا أمام إدارة أزمة تتطلب تحركاً سريعاً نتيجة ما تسببه من قلق وارتباك وضغوط نفسية وخشية من انفلات الأوضاع وتطورها بشكل يصعب السيطرة عليه. ولاشك أن صناع القرار في كافة الدول المعنية ومنها المملكة يعيشون هذه الأجواء وهو ما يصعِب مهمتهم ويضعف قدرتهم على اختيار البديل الأنسب ويزيد من احتمالات اتخاذهم قرارات خاطئة.

ولذلك سنحاول هنا وحسب ما يتيح المجال مناقشة أحد العناصر المهمة في عملية المفاضلة وتتمثل في أثر البيئة المحيطة في مستوياتها الثلاث: المحلية والإقليمية والدولية.

(أولاً) على المستوى المحلي نجحت المملكة في التصدي لتداعيات الربيع العربي واحتواء آثاره الخطيرة فهي تعيش حالة استقرار في منطقة عانت منذ 2011 ولا تزال من تفكك دول وانهيار أنظمة وتردي كبير في الأحوال الأمنية والمعيشية. ولكن في المقابل نجد أن المملكة وبسبب ما أصاب الاقتصاد العالمي وتراجع أسعار النفط تواجه تحدٍ اقتصادي حقيقي حيث قدر صندوق النقد الدولي العجز المتوقع في ميزانية العام الحالي بما يصل إلى 20% وبقيمة 400 مليار ريال ويستمر العجز حتى 2020 بمقدار 80 مليار دولار. كما يعاني الاقتصاد من تأكل احتياطات المملكة وخطورة ذلك على المدى البعيد وأثره على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها التنموية الكبيرة. كما تشمل البيئة المحلية التي لابد من مراعاتها في عملية المفاضلة بين البدائل المختلفة تلك الحرب المستمرة في اليمن والتي ورغم ما يحققه فيها التحالف والمقاومة الشعبية من انتصارات ضد ميليشيات الحوثي والرئيس السابق فإنه لا يمكن الجزم بنهايتها وتقتضي&الموضوعية طرح احتمال استمرارها وهو ما يعني استمرار حالة عدم الاستقرار في اليمن لفترة طويلة، وهو ما تقدره بعض التحليلات العسكرية،خاصة عند النظر في مسائل انفصال الجنوب اليمني وتمدد تنظيم القاعدة هناك. كما أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن استمرار هذه الحرب ورغم مشروعيتها ودعمها بقرار دولي أمر مكلف بشرياً واقتصادياً وسياسياً لذلك لابد لصانع القرار أن يراعي هذه المسألة عند تحديد شكل التحرك المناسب تجاه الصراع في سوريا.

(ثانياً) على المستوى الإقليمي هنا نجد تحولات كبيرة في البيئة الإقليمية لا تخدم تحرك عربي مؤثر تجاه أي قضية وهو ما يظهر جلياً في الموقف من أحداث العراق منذ 2003 والموقف حالياً من الصراع في سوريا وليبيا. فمن جهة نجحت إيران في تعزيز مكاسبها وأصبحت تعيش نشوة انتصارات مزيفة جعلتها تتحرك بأسلوب استفزازي مستعيدة لعبة تصدير الثورة التي فشلت فيها والتركيز تحديداً على المملكة بحكم دورها القيادي في الأمة الإسلامية طمعاً في استفزازها ودفعها لتحرك غير مدروس يورطها في أزمات إقليمية تنعكس سلباً على مكاسبها السياسية والتنموية التي حققتها خلال عقود من التحرك الرشيد.

ومن جهة أخرى انشغلت الدول العربية بترتيب أوضاعها الداخلية وتغيرت أولوياتها لدرجة نلحظ فيها شبه غياب تام لعدد من الدول العربية في التفاعل مع القضايا المشتركة. وقد اعترف الأستاذ خاشقجي بصعوبة تشكيل موقف عربي نحو التدخل الروسي في سوريا بالنظر إلى أن مصر وهي ركيزة أساسية لأي تحرك جماعي اتخذت موقفاً مناقضاً للموقف السعودي ورحبت صراحة بالتدخل العسكري انطلاقاً من تقديرها لمصالحها العليا حيث ترى أن الخطر الذي يهدد استقرارها يتمثل في الحركات المتطرفة وترى في جوارها الجغرافي شمالاً ومن ضمنه سوريا مصدر التهديد الأساسي لأمنها القومي. لذا لا يمكن تصور تشكل موقف عربي حاسم؛ خاصة أن عدد من دول الخليج التي تعد الحليف الرئيس للمملكة لها رؤية مختلفة حول الأوضاع في سوريا حيث تعطي أولوية لمكافحة الحركات المتطرفة حتى لو استدعى ذلك بقاء الأسد خلال الفترة الانتقالية. إذاً صانع القرار في المملكة أمام بيئة إقليمية صعبة جداً وغير مهيأة لتبني موقف عربي حاسم وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار في عملية تفضيل البدائل للتعامل مع التدخل الروسي.

(ثالثا) البيئة الدولية وأبرز ملامحها تردد أمريكي أصبح سمة ثابتة في الموقف من الصراع في سوريا ورغم أننا نصفه بالتخاذل، إلا أن الرئيس الأمريكي يرى أن موقفه بعدم التدخل في الصراع يخدم مصالح الولايات المتحدة حسب رؤيته بعد سنوات من التدخلات العسكرية الفاشلة. ولا نتوقع تغيراً في هذا الموقف؛ خاصة وأن الرئيس في نهاية فترة حكمه، وتعيش الولايات المتحدة أجواء انتخابية يصعب خلالها اتخاذ قرارات حاسمة. أما تجربة التحرك السعودي الأمريكي المشترك لدعم المجاهدين الأفغان فلا يمكن استعادتها لأسباب كثيرة من أبرزها أن ظروفها الدولية لم تعد قائمة؛ حيث تلاشى التهديد الشيوعي وحل مكانه تهديد الحركات الدينية المتطرفة التي لا يمكن افتراض وجود اتفاق تام حولها بين الرياض وواشنطن كما كان الحال تجاه التهديد الشيوعي.

ويؤكد التاريخ الحديث أن قضايا بحجم الصراع في سوريا لا يمكن حلها دون دور رئيس للولايات المتحدة. ومؤخراً ونتيجة لأزمة هجرة اللاجئين نجد أن الدول الأوربية تكاد تتفق مع روسيا على أولوية مكافحة التنظيمات الإرهابية وتقبل بحل دبلوماسي يمنح بشار الأسد دوراً خلال المرحلة الانتقالية وهذا موقف لا ينسجم مع الموقف السعودي ما يعني أن صانع القرار في المملكة لابد أن يواجه هذه الحقيقة قبل تحديد التحرك المناسب تجاه التطورات الأخيرة. أم روسيا وهي المعنية بهذا كله ويراد تحديد موقف تجاه تدخلها العسكري فإن مصالح المملكة الوطنية تقتضي الإبقاء على علاقات جيدة معها وهو ما تؤكده القيادة السعودية ويظهر من خلال نشاط دبلوماسي باتجاه موسكو خلال الأشهر القليلة الماضية.

إذاً هذه البيئة بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية التي ستكون حاضرة في ذهن صانع القرار وهو يفاضل بين البدائل المناسبة للتحرك وتضبط خياراته. هذا بالطبع لا يعني عدم التحرك والقبول بالأمر الواقع بل الدراسة الدقيقة للبدائل وعدم الاندفاع بسبب تأثير اللحظة والقراءة المتسرعة والعاطفية للأحدث، وهنا يأتي دور قادة الرأي في تقدير وضع المملكة والأعباء وجملة التحديات التي تواجهها. ومعلوم أن الهم الأول للمسئول في أي دولة هو حماية مصالحها الوطنية ضد أي تهديدات مباشرة، في حين تتشارك مع الآخرين في تحمل مسؤوليات استعادة الأمن والسلام الإقليمي والدولي، ولا يمكن أبداًً تحميل دولة بعينها هذه المسؤولية بشكل منفرد مهما كانت مكانتها وقدراتها. ومن هنا نرى أن التحدي الحقيقي المترتب على التدخل الروسي، وفي حال تجاوزنا مسألة التضامن العربي والإسلامي والمسؤولية الأخلاقية التي يتحملها الجميع، إنما يتمثل فيما يمكن أن يتسبب فيه التدخل في التأسيس لحالة "جهادية جديدة" بين الشباب السعودي تعيد لنا التجربة الأفغانية بكل تبعاتها السلبية على أمن المملكة&ومكانتها. وهنا تقع المسؤولية على قادة الرأي في تجنب القراءة العاطفية للأحداث والتباكي على حال الأمة دون وعي بأثر هذا الخطاب التعبوي على شباب غر متحمس لا يدرك تعقيدات وتشابك القضايا السياسية الإقليمية التي لا يمكن النظر إليها من زاوية تبسيطية ومن منظار "نحن وهم" والتي تسببت في الكثير من الأخطاء والكوارث. وكوسيلة لاحتواء التعبئة والشحن نتيجة للتطورات الأخيرة فيتوقع من المسئولين في المملكة متابعة ما يحدث على مدار الساعة وانتقاء الخطاب المناسب الذي يقطع الطريق أمام محاولات توظيف هذه التطورات لأغراض التعبئة والشحن الجماهيري تحت شعار التصدي لأعداء الأمة وحمايتها من "الهجمة الصليبية الشيوعية الصفوية النصيرية".

أستاذ العلوم السياسية جامعة الملك سعود