تعج سماء سورية بخليط من الطائرات المقاتلة، كما ترتفع فيها عشرات الرايات والاعلام التي تضع علامات استفهام حول ما تبقى من الجغرافيا السياسية السورية بعد نحو قرن من بداية تشكلها. إذ تلوح في الفضاء السوري نذر ما يسمى "سورية المفيدة" أو "سورية الصغرى".

وتتعدد معاني مصطلح "سورية الصغرى" ويختلف إعرابه وصرفه سياسياً وجغرافياً وتاريخياً. فالمعنى الأول لمصطلح "سورية الصغرى" قد يشمل "دمشق الكبرى"، ويستدعي في الوقت نفسه تجربة "دولة دمشق" البائدة(1920 - 1925) التي كانت تشمل مدن حمص وحماة ووادي نهر العاصي. التي فقدت الدولة أربعا من أقضيتها الفرعية التي كانت من ضمن دمشق في الفترة العثمانية وضمت إلى جبل لبنان ذي الأغلبية المسيحية من أجل تكوين دولة لبنان. والمقاطعات الأربع المنزوعة هي صيدا وطرابلس الشام وبيروت وسهل البقاع.

&كما قد تعني "سورية الصغرى" الجديدة استحضارا لما كان يسمى "الاتحاد السوري" الذي شكله الجنرال هنري غورو عام 1923 من دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين مؤقتا التي فصلت عن الاتحاد السوري في 1 ديسمبر 1924. ولاحقاً تحول الاتحاد السوري إلى ما عُرف باسم "الجمهورية السورية".

&وربما تعني سورية الصغرى" حجماً جغرافياً فلكلورياً يستحضر "سورية الصغرى" النيويوركية أي (Little Syria)، أي الجزء الجنوبي من شارع واشنطن الذي أطلق عليه اسماء عدة من بينها “الربع السوري” و”المستعمرة السورية الرئيسية” و”المستعمرة السورية الأم”. وهو الجزء الذي تشكلت حدوده من: شارع سيدار في الشمال وشارع باتيري بلايس في الجنوب والشارع الغربي في الغرب وشارعي غرينيتش وترينيتي بلايس في الشرق.

&وحسب تقرير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حول توقعات عام 2015، ولكون " سورية الكبرى لم تعد قائمة. والمصطلح المتعارف عليه اليوم هو سورية الصغرى أي 20 – 30 في المئة من مساحة سورية. أما بقية الأراضي فهي كانتونات مستقلة، يحارب بعضها بعضاً".

الجدير ذكره، أن فرنسا عندما احتلت سورية قبل قرن من الزمن، عانت من تعقيدات "المسألة السورية" إلى درجة دفعت المؤرخ ميشيل كرستيان دافيه نحو القول في كتابه "المسألة السورية المزدوجة": "سوريا بالنسبة للجنرال ديغول هي أرض ملعونة ليس فيها سوى فاكهة مرة· إنها الوجه الآخر لميدالية براقة"·

&لقد تم خلال القرن المنصرم من الزمن، تغيير العلم الوطني 9 مرات على إيقاع تغير نظام الحكم. ففي البدء كان العلم الفيصلي أي علم الثورة العربية الكبرى (1916-1918). وتم تبنيه كعلم سورية الرسمي من قبل العائلة الملكية الهاشمية. وأصبح رسمياً بتاريخ 30 /9/ 1918 وبقي نفسه حتى 8 /3/ 1920عندما أصبح فيصل الأول ملكاً لسورية. وليستبدل علم المملكة السورية 4 مرات خلال فترة الانتداب الفرنسي.

واعتمد أول علم سوري تحت الانتداب الفرنسي من قبل المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو وبقي رسمياً من 24/7/ 1920، حتى 1/9/ 1920. أما العلم الثاني فاعتماده رئيس الوزراء جميل الألشي في 22 /6/ 1922، وتضمن علم فرنسا. وبقي معتمداً حتى عام 1930. واختار العلم الثالث في ظل الانتداب الفرنسي. رئيس الوزراء تاج الدين الحسني، عام 1930.

&وتميز العلم الرابع في ظل الانتداب الفرنسي. بطول فترة اعتماده، إذ اعتمد في 1 /1/1932، علماً للجمهورية السورية ولُقّب بـ "علم الاستقلال" لأنه شهد استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي يوم 17 /4/ 1946. وهو علم ائتلاف الثورة والمعارضة السورية.

واستمر اعتماده حتى العام 1958، واعتمد أيضاً خلال عهد الانفصال 1961- 1963 حيث تم اعتماده بديلاً لعلم الجمهورية العربية المتحدة،( وهو العلم الحالي نفسه الذي اعتمد في 3/4/1980). أما علم الجمهورية العربية السورية بنجومه الثلاث الخضر التي ترمز إلى أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية والعراق (الوحدة والحرية والاشتراكية). هو نفسه علم الوحدة الاتحادية بين مصر وسورية والعراق، التي أعلنت في 17 /4/ 1963. لكن مصر لم ترفعه ورفعته كل من سورية والعراق. وهو نفسه علم اتحاد الجمهوريات العربية (مصر وسورية وليبيا)، التي أعلنت في 17 /4/ 1971. لكن ألغيت نجومه وحل محلها (العُقاب) بلون ذهبي وتحته عبارة (اتحاد الجمهوريات العربية).

لقد كانت المسالة الوطنية وهوية الوطن وحقوق وواجبات المواطن حاضنة موجات الاحتجاج والثورة التي اندلعت في جمهوريات عربية مشرقية ومغاربية، وعبرت عن عمق أزمة الدولة العربية القطرية التي تراوحت صورتها بين كيان سياسي مصطنع، ومجموعات بشرية مختلفة قومياً وإثنياً ودينياً ومذهبياً تتباين درجات خضوعها وانضوائها تحت راية واحدة ورموز وطنية وسيادية اتفق عليها في مرحلة تاريخية سابقة.

ومن الملاحظ أنه في النموذجين التونسي والمصري لثورات الربيع العربي، كان ثمة اتفاق بين المحتجين التونسيين والمصريين على الراية الوطنية الواحدة الجامعة والنشيد الوطني الذي يعكس نصه ومفرداته المستقبل المأمول. وعندما ارتفعت رايات حركة النهضة وجماعة الإخوان المسلمين ورايات حزبية أخرى، اندلعت أزمة المواطنة وهوية الدولة ودينها.&

وفي ليبيا التي يُنسب إلى هيرودوت قوله فيها:"من ليبيا يأتي الجديد". سقطت راية الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى، واستبدلت بعلم الاستقلال الوطني. لكن الجمهورية لم تستقر، ويواجه البلد الذي شهد عام 1918 قيام ما سمي الجمهورية الطرابلسية، وهي أول جمهورية في الوطن العربي وثاني جمهورية في العالم، خطر التحول إلى إمارات قبلية واخوانية وداعشية متعددة الرايات والرموز.

أما في بلدان المشرق العربي، وعلى نحو خاص في العراق وسورية، فثمة سجالات ساخنة وحروب رايات دموية وإعلامية. ففي العراق، لا يتوقف الأمر عند وجود عدد كبير من الرايات. بل يتجاوز ذلك إلى سجالات بين الكتل السياسية بشأن شكل العلم الجديد للبلاد وكذلك النشيد الوطني الذي يعبر عن وحدته ومكوناته.

&ويتبنى العراق اليوم قصيدة "موطني" التي كتبها الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان ولحنها الموسيقار اللبناني محمد فليفل، نشيدا وطنيا، وهو نشيد قرر اعتماده عام 2005 الحاكم الأميركي للعراق حينها بول بريمر، بعد أن كان يعتمد إبان النظام السابق نشيد "أرض الرافدين" للشاعر شفيق الكمالي. لكن نشيد "موطني" جوبه بمشكلة كونه لا يحمل أي خصوصية عراقية بل يرمز إلى القضية الفلسطينية.

&ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921. كان النشيد الوطني العراقي هو النشيد الأكثر تغيرا بين أمثاله من الأناشيد الوطنية في الدول العربية بشكل تزامن مع كل تغيير في نظام الحكم، وبسبب ذلك تعاقبت على العراق خمسة أناشيد وطنية خلال أقل من قرن.

وقد أعلن أكثر من مرة عن مسابقات للعلم والنشيد الوطني لكن تحكيمها لم يوكل إلى مختصين من كبار المثقفين العراقيين بل أوكل إلى طبقة سياسية متناحرة. وراهناً، تم اختيار ثلاثة نصوص لكل من الشعراء محمد مهدي الجواهري بعنوان "سلام على هضبات العراق" والثاني للشاعر بدر شاكر السياب بعنوان "غريب على الخليج" والثالث للشاعر محمد مهدي البصير بعنوان "وطني الحق يؤيده"، وويرجح الاتفاق على قصيدة الجواهري. لكن بعد إضافة بعض المفردات التركمانية والآشورية إلى النشيد الوطني وتضمين النشيد بيتا شعريا باللغة الكردية.

وبالنسبة للعلم الوطني، هناك 6 نماذج اختير منها نموذج علم ثورة عبد الكريم قاسم وهو عبارة عن خطوط متوازية في الطول وتبدأ من جهة اليمين باللون الأسود ثم الأبيض ومن ثم الأخضر وتتوسط اللون الأبيض نجمة حمراء فيها دائرة صفراء.&

ولعل الأمر المهم في مسألة الرايات والرموز الوطنية والسيادية، في الحالة السورية الراهنة، هو درجة تعبيرها عن وطن عزيز وحر وموحد أرضاً وشعباً. وهي في حقيقتها وغاياتها ليست أوثاناً أو أيقونات مقدسة.

وما يجري حالياً هو إعادة إنتاج المسألة السورية والصراع على سوريا الذي أنتج إستقلالين: الأول عن فرنسا والثاني عن مصر. أما إستقلال "سوريا الصغرى" أو "سورية الجديدة" فقد يتخذ شكلاً أفغانياً أو صومالياً في ظل فوضى الجيوش والرايات "المقدسة". ولذلك تعددت في الأونة الأخيرة التحليلات والتنبؤات والسيناريوهات المتعلقة بخريطة "سورية الجديدة" مشفوعة بتعويذة تفيد أن "التقسيم هو الحل الإبتدائي" الممهد لفدرلة لاحقة. ويبدو أن الشمال الجيوبوليتيكي لبوصلة التقسيم يتمثل في تصغير سورية وتصفير دورها الإقليمي وتصحيرها اقتصادياً.