&كان يا ما كان في عصرنا هذا و في هذا الآوان فتاً عاش حقاً بيننا فتحولتْ سيرة حياته لقصة من الفلكلور الشعبيّ الكنديّ.

كان في ربيعه 18)) عندما أُصيب بمرض الساركوما العظمية (سرطان العظام) و في ربيعه (21) عندما قارع مرضه ليجري في "ماراثون الأمل" و في عامه ( 22) عندما ترك بصمته في وجدان الشعب الكنديّ ورحل في ريعان الشباب. هو "تيري ستانلي فوكس": اسم أشهر من نارعلى علم في سماء كندا, يعرفه كلّ من سكن أرضها و خَبِر ثلوجها و شاهد أوراق أشجار "القيقب/الميبل" تكسب لونها الأحمر في خريفها. وعلى خطاه لاتزال الأجيال الشابّة من كلّ الفئات والأعمار تجوب الجغرافيا الكنديّة في "سباق تيري فوكس". كيف لا ولأجله نُكّست أعلام البلد عندما و دّعه صغيراً على الموت كبيراً بالإنجاز. لم يكن تيري سياسياً محنّكاً و لا فَناناً ذائع الصيت, لم يقبض على مفاتيح السلطة و الجاه و لم يخطط للشهرة يوماً. كان فتاً صغيراً من مدينة صغيرة "بورت كوكويتلام" يحمل في فواده عشقاً لكرة السلة وحلماً بلعبها في فريق مدرسته, صبر و تدرب كثيراً لينتقل من صوف الاحتياط ويلعب كرة السلة مع فريقه لدقيقةٍ واحدة فقط في الصف الثامن! ثم انتظم كلاعب أساسي في الفريق. شجّعه مدربه على رياضة الجري فقبل ذلك على مضضٍ إكراماً له و إرضاءً لوالديه... وهو لايزال يحلم بلعب كرة السلة, تخرّج من المدرسة الثانوية و بدأ بدراسته الجامعية ليتعرض لحادث سير بسيط في عام( 1976) و إصابة طفيفة في ركبته, لكن في عام (1977) اشتّد عليه الألم ليشّخص الأطباء إصابته بمرض السرطان و يخسر ساقه بعملية البتر ويسير على طرفٍ صناعيّ. و بعدها انطلق في رحلة مؤلمة مع العلاج الكيماوي...و في قلبه لازال ذات الحلم جمرةٌ لا تنطفئ. خسر تيري ساقه لكن لم يخسرْإرادته وعزيمته في الوصول إلى ملاعب كرة السلة..فلعب على كرسي متحرك (كرة السلة للكراسي المتحركة) بدعوة من "ريك هانسن" من "جمعية رياضات المعاقين" و فاز بعدة ألقاب و طنية.

و قد تعكس هذه القصة جزءً من شخصية تيري التي ترفض الهزيمة... و لكن للحديث بقية وما هذه إلّا بداية الحكاية. ففي عام (1980) أطلق "ماراثون الامل" رغبةً منه بجمع التبرعات لأبحاث السرطان. كان مصمماً على قطع كندا(ثاني أكبر دولة في العالم من ناحية المساحة ) طولاً لينطلق من "نيو فنلاند" على المحيط الاطلسي, أملاً قي الوصول الى الى "بريشيش كلومبيا" على المحيط الهادئ.

بساقٍ واحدة وسرطان متفشٍ في جسمه و قلب مريض بالتضخم انطلق تيري في أبريل من عام( 1980) في رحلة الأمل التي لم تحظى بكثير من النجاح في بداياتها: فقد قابلته الطبيعة بعواصف مطريّة وثلجيّة و خاب أمله بالاستقبال الفاترالذي لقاه في بعض المدن, لم يثنِه ذلك عن المواصلة ووعد بأنّه سيستمر في الجري حتى لو اضطر أن يزحف في الميل الاخير. لكن كما يقول المثل الانكليزي "لكل غيمة داكنة بطانة فضية", فاهتم "إيزادور شارب" -الرئيس التنفيذي "للفور سيزنس" و الذي كان قد خسر ابنه للمرض أيضاً- بقصة تيري لتكسب ضجّةً إعلامية لا نظير لها في البلاد, فيححق تيري حلمه الحقيقي بجمع التبرعات لأبحاث السرطان أملاً في أن يريح من يأتي بعده من مرضى من آلامهم. استمر تيري بالجري( 143) يوماً حتى آخر لحظة من عمره. و بعد أن قطع مسافة (5,373 كيلومتراً) أقعده المرض ليغط في غيبوبةٍ أخيرةٍ في مشفى "رويال كلومبيان هوسبيتال" ثم يرحل عام 1981.

و هنا نهمس في أذن القارئ سؤالاً: ماذا لو كان تيري فوكس (الكنديّ) سورياً؟ جواب يعرفه الجميع ويرسم على الشفاه إبتسامةً مريرةً...فربّما لو كان سورياً لشهدناه مع الكثير من اللاجئين السورريين الذين يقطعون الحدود والبحور و الدروب على ساق واحدةٍ, بأطرافٍ صناعيّةٍ, أو على كرسي متحرك! في ماراثون بشريّ لم يسبق له مثيل في عصرنا: "ماراثون الحياة". منظرهم مهيب يذّكرنا بقوة عزيمة الانسان في الوصول لغاياته و بأسه على تحمل الشدائد. هؤلاء الأبطال لا يتهافت الإعلام لسرد قصصهم, فهم شريحة مُهملة يطلقون عليهم جزافاً اسم "المعاقين" فنخجل أمام صبرهم وعنفوانهم الذي تخطّى حدود قوتنا. قد تذهب قصصهم أدراج الرياح و قد يتسمّر أحفادهم يوماً للاستماع لرحلتهم الأسطورية التي تشبه الخرافات, لا نعرف... ولكن إليكم ما نعرفه يقيناً: لأنّ تيري فوكس لم يكن سوريّا أنصفه موطنه فلم تخلو أيّ قرية صغيرة نائية أو مدينة كبيرة مكتظّة من شوارع ومدارس تحمل اسمه..لأنّ كندا "نزعت القبعة " أمام معجزات هذا الشاب الصغير تحوّل لرمزٍ وطنيّ حقيقيّ تفخرالأرض بأنّه كان ابنها. لم يكن تيري عاجزاً فقد حقق المستحيل بساقٍ واحدة... ومثله آلاف السوريين الذين نراهم يسيرون في دروب الألم والأمل كلّ يوم بأطراف صناعيّة, فهم "كتيري" معجزة حقيقية.

&لكن شتّان بين أمة تُكرم أبطالها و أُخرى ترمي بهم في مسالك الموت ليتحولوا إلى صور في المحطات والأخبار و يبدأوا "ماراثون" البحث عن وطن بديل علّه ينصفهم كثيراً - كما أحبت كندا "تيري" و أنصفته- أو حتّى قليلاً فيمنحهم أملاً بالمستقبل و حضناً دافئاً. تيري الكنديّ كان بطلا مُلهماً ملأ دنيا كندا وشغل ناسها وهولاء السوريون الذين يمضون عبر المستحيل "كتيري" بأطرافٍ صناعيةٍ هم أبطال مجهولون قد ينصفهم التاريخ يوماً بعد أنْ خذلهم العالم كلّه...&

و تستمر الحكاية عن كان يا ما كان في هذا العصر و في هذا الآوان عن بشرٍ بإرادة أبطال الأساطير قطعوا العالم كلّه على طرفٍ صناعيّ, على ساقٍ واحدة على كرسي, بحثاً عن السّلم والحياة و الأمل...فلهم نرفع القبعات وتنحني الهامات.

&