لا يستثني كنعان مكية في "القسوة والصمت"، أدونيس، من نقده لصمت المثقف العربي عن جرائم دكتاتور العراق السابق، أو محاولته لتخفيف الوطئة عبر مقارنة ماكرة بين شرين، محلي وغربي!

أدونيس في سجال حرب الخليج الثانية بعد غزو العراق للكويت، كما ينقل مكية، صمت برهة. وبعد، استطاعت صحيفة القدس العربي أن تكسر صمته في آذار 1991 بمقال تحت عنوان "الصلاة والسيف أو الديمقراطية المتوحشة"، أي بعد يوم أو اثنين من كتم انتفاضة العراقيين حينها. ضمّنه رداً على مقالة للشاعر والكاتب الالماني المناهض للنازية "هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر" الذي قارن فيها بين الطاغيتين البعثي والنازي. رفض أدونيس المقارنة، مميزاً بين النموذجين. ورأى على هذا الأساس أن مقارنة صدام بهتلر مبالغة، وان ضرورة الخلاص من الثاني مختلفة عنها مع الأول!. عندها أخفق في هذا الاختبار" والكلام لكتاب "القسوة والصمت".

أظن أن الفشل كمن في أن مقارنته محاولة "عربية" للتخفيف من سوء دكتاتور "عربي"، على اعتبار أنه لا يشكل مخاطر كتلك التي يشكلها مُشعل الحرب العالمية الثانية. عملية تندرج ضمن تقليل وقع الدكتاتورية، وصدمة السياسات العدوانية التي لا يمكن أن نخضعها لمقارنات تبدو ضيّقة، كونها لا تراعي متغيرات الزمان والمكان. فالعراق ليس المانيا، والشرق الأوسط غير اوربا، غير أن هذا لا يجعل طاغية "هنا" أقل شأنا من طاغية "هناك"، بل على العكس يدفعنا الى النظر بعين التساوي بين الاثنين، لأن حجم الظلم والطغيان يقاس بحسب المكان والزمان. مثلا ان سجناً يسع الفاً في البحرين ليس أقل شأنا من سجن يسع خمسين ألفاً في باكستان أو كولمبيا. وان جرائم الابادة التي ناهزت المليون قتيلاً في رواندا ليست أدنى جرماً من محارق هتلر التي كانت بالملايين، وربما تفوقها ان قيست الامور بالعدد والزمن والجغرافيا. وصغر دور العراق أو أي بلد شرق أوسطي لا يقلل من شأن الاستبداد قياساً بهتلر أو ستالين أو ماو أو فرانكو او شاوسيسكو. الفرق ان اولئك امسكوا بلدانا أكبر ومواقع تاريخية أخطر. والخطورة التي يظفيها الظرف لا تميز بين ظالم واخر.

وحين صدرت مواقف أدونيس حول "الربيع" العربي وتطوراته في سوريا، أخطأ كثيرٌ منا، وانا منهم، إذ صنفنا رأي الرجل على أنه موقف فكري معرفي لا يخضع للمساومات والانتماء المذهبي. لم نفهم كثيراً أن هناك خللاً محورياً في مثل هذه المواقف، رغم صحة بعض زواياها. يوجد فرق كبير جداً بين التحفظ على فعل ثوري يقوده الدين، والبحث في اسباب هذا الفعل. في سوريا هناك زاويتان، الأولى أن الدين والطائفة خلفية للكثير ممن تحركوا ضد نظام بشار الاسد، والثانية أن ظلم البعث واستبداده أيضاً خلفية للجوء الكثيرين نحو الدين كبديل عن نظام "علماني" طاغ. المقاربة الرئيسية في تلك اللحظة، لا يمكن فهم دور الدين فيها، الا إذا عرفنا أن المشروع العلماني فشل فعلا بسبب ورثة عبد الناصر في العراق وسوريا وليبيا! ولم يكن من بديل عنه ضد هذا الفشل المحاط بالسجون والاعدامات وسحق الدبابات للبشر والتمييز الطائفي او القبلي المغلف علمانيا في بلدان القومية العربية.

صحيح، أن الحكيم، وتحديدا المثقف النقدي، لابد أن يحدد موقفه بوضوح من ثورة يحركها الدين او يحاول استغلالها رجاله والاسلام السياسي، لكن بالمقابل هذا الموقف لا يفترض أن يكون أكبر من التصدي بقوة وبصراحة لدعم تفكيك الانظمة التي شوهت علمانية الشرق الأوسط، بالظلم والاستبداد. لذلك، موقف ادونيس في تلك اللحظة بعين واحدة، لم يكن بذات الزخم والقوة ضد الاستبداد غير الديني كما كان أمام الثيوقراطية الدينية. وبهذا فقد التأثير الحاسم معرفياً، لأنه لم يتخذ دعم التغيير الصريح، وليس بطريقة التمييز بين هتلر والدكتاتوريات الشرقية، وهي طريقة للتخفيف وليس للتمييز.

في مقابل هذه النظرة الأحادية، هناك مفكر سوري آخر، صاحب أحد أهم المشاريع الفكرية حول الديمقراطية في الشرق "بيان من أجل الديمقراطية" وهو برهان غليون. كاتب نبذ الاستبداد وفي الوقت نفسه حكم الدين. موقفه بدأ منسجما مع تصوراته في كتاب "اغتيال العقل". الا أنه آثر الاشتغال بالسياسة عن اكمال مهتمه كمفكر مستقل، ليقع ضحية استحقاق اشتغاله الجديد، وأهم هذا الاستحقاق النزول عند رغبة الشركاء، وتغيير الحقائق الفكرية بحسب ما تمليه "المصلحة السياسية". بسبب تسييسه، خضع لما تمليه الارادة الدينية، حيث يتسيد "الاخوان المسلمين" مشهد الحياة السياسية مقابل البعث، فغيّر بعض ما آمن به. عندها بات نموذجا للمثقف الذي يخسر وظيفته لصالح السياسة. حين يكون متحزبا لا يختلف عن أي زعيم يلعب بالمواقف. ففي لقائه على الجزيرة مع "أحمد منصور"، أصبح ينظّر لشيء غير مفهوم، "دولة علمانية" تديرها حكومة اسلامية! وهذا ليس قناعة، انما فعل سياسي، أخسره الكثير.

هاتان المقاربتان، ليستا سوريين صرف، انما عربية عامة. فالبيئة المذهبية والايديولوجية، وانهيار المثقف عند اشتغال في السياسة، تجعل التصورات عوراء، وتصيب المثقف "النقدي" بمقتل، يصبح معه مصطفاً سياسياً وليس نقديا.

في هذا المفصل المهم، لا يلعب المثقف الدور الأبرز أمام صعود الأحزاب ورجال الدين وقمع الأنظمة ودور الدول الكبرى والمتوسطة، لكنه سيساهم في حماية شرائح اجتماعية وثقافية تبحث عن مرجعيات بديلة لمستقبلها. والقواعد الفكرية تولد في الأزمة وليس في السلام.&
&
&