بعد أن وافق مجلس الشورى الايراني على الاتفاقية النووية الدولية، يبقى السؤال: ما معنى هذه الاتفاقية للنظام الايراني؟ وهل ستلتزم به جميع اطراف نظام حكمه؟ وهل ستحقق هذه الاتفاقية السلام المنشود في "شرق اوسط ما بعد امريكا؟" وهل ستلعب شعوب المنطقة دورا فاعلا لكي تحقق هذه الاتفاقية السلام والتنمية والازدهار، ضمن سوق شرق اوسطية مشتركة؟ وهل سيحتاج ذلك لخفة حمى الثورة الايرانية بعد 36 عاما من ارهاصات حرارتها المعقدة؟ وبإختصار شديد، ما الطريق الذي ستسلكه ايران بعد هذه الاتفاقية؟ فهل ستنفتح على العالم، وتستفيد من قدراتها الحضارية والبشرية والاقتصادية، ام ستعرقل النخبة المحافظة تعاملاتها الاقتصادية والتجارية مع جيرانها ومع عالم العولمة الجديد؟ وما التبعات الاستراتيجية لهذا القرار على المستقبل الايراني؟ وهل سيكون الاتفاق النووي نقمة أم نعمة على العالم والشرق الأوسط؟
&للاجابة على هذه الإسئلة ليسمح لي عزيزي القارئ أن نراجع عدد شهر نوفمبر- ديسمبر من المجلة الدبلوماسية الامريكية، فورن أفيرز، والذي كتب فيه سيرس أمير خوري، مساعد وزير المالية الامريكي للمؤسسات المالية، وحميد بجلاري، نائب رئيس الستي جروب، وبعنوان، المفاجئة الغير متوقعة لايران، إنهاء المقاطعة والاقتصاد الإيراني. فقد كتب المؤلفان: "تؤكد الحكمة التقليدية بأن الحكومة الايرانية ستحصل على مفاجئة اقتصادية غير متوقعة، برفع الحظر عن مائة مليار دولار لايران، كما ستستفيد من رفع المقاطعة بموجات استثمارات العولمة الجديدة... ويقدر بأن ايران ستحتاج لاستثمارات تقدر بحوالي التريليون دولار خلال العقد القادم، لتكملة بنيتها التحتية المعطلة، ولذلك ستكون الاستثمارات الاجنبية اساسية للتنمية الاقتصادية الايرانية، والتي لم تنصهر حتى الان ضمن الاقتصاد العولمي.& وفعلا، قد نضجت ايران لتحولات اقتصادية جديدة، فبالاضافة لثراء مواردها الطبيعية، تستمتع ايران باقتصاد متنوع، وفائض تجاري، ومجتمع مدني متعلم، فالاسثمارات الاجنبية ستساعد ايران على أبراز هذا الثراء. ولكن لن يكفي انهاء المقاطعة لجذب المستثمرين الاجانب، فمع ان رفع العقوبات سينهي عائق اساسي في معالجة الاقتصاد الايراني، ولكن لن يخلق اتوماتيكيا شبكة قوانين وانظمة لاستدامة الاستثمارات الاجنبية. فالمحاولات الايرانية الباهتة في تحرير السوق، وسجلاتها الضعيفة في محاربة الفساد وتجاوز حقوق الملكية الفردية، ستستمر في منع دخول الاستثمارات العالمية. وحتى لو قررت الشركات الاجنبية الاستثمار، ستبقي "النخبة المحافظة" غير واثقة من دوافعها، والتي ستعطل الشراكة الحقيقية الفاعلة. ولو فعلا تريد ايران جذب الاستثمارات، فعليها تنفيذ اصلاحات مهمة، تشمل تقوية قوانين حقوق الملكية، وتحويل الاصول الحكومية للقطاع الخاص، وضمان استقلالية البنك المركزي، وبعدها فقط ستجني ايران ثمار الاتفاقية النووية.
كما أن ايران هي الدولة الوحيدة في العالم التي تجمع بين احتياطي هائل من النفط والغاز، فهي ثاني دولة في احتياطي الغاز، ورابع دولة في احتياطي النفط، مع ان ايران تملك امكانيات اقتصادية كثيرة ومتعددة، فمثلا الانتاج الاجمالي المحلي يبلغ 1.4 تريليون دولار، أي 1.5% من الانتاج الاجمالي المحلي العالمي، فهي تملك اقتصاد ترتيبه العالمي 18، بين تركيا واستراليا، كما ان نسبة ديونها من ناتجها الاجمالي المحلي تبلغ 12%، وهي ضمن الاقل في العالم. كما ان اقتصادها متنوع، فحوالي 50% اقتصادها خدمي، 41% صناعي، 9% زراعي، واما النفط والغاز فيمثلان حوالي 20%. وقبل المقاطعة في عام 2011، كان ترتيب ايران 13 في صناعة السيارات، حيث كانت تنتج 1.65 مليون سيارة في السنة، أي اكثر من انتاج المملكة المتحدة. ومنذ عام 2013، استمتعت ايران بفائض تجاري، يبلغ 35 مليار دولار، من صناعة السيارات، والمعادن، والخدمات، وتكنولوجية الاتصالات. ولكن اهم قدرات ايران الاقتصادية هي في مواردها البشرية، فلديها 80 مليون من السكان، مقاربة لالمانيا وتركيا، وحوالي 65% منهم تحت 35 سنة من العمر، و 73% من السكان يعيشون في المدن، موازية للدول الصناعية، وهم على مستوى عالي من التعليم والتدريب، وحوالي 87% منهم يقرأون ويكتبون، في الوقت الذي 98% من الشباب، بين سن 15 سنة وحتى 24 سنة، يقرأوون ويكتبون. كما أن هناك 4.4 مليون طالب في الجامعات، و 60% منهم نساء، بينما 44% منهم يدرسون العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات. فبعد روسيا وامريكا، ايران هي الخامسة في انتاج المهندسين، طبعا بعد الصين والهند.
كما أن 7.5 مليون من الشعب الايراني اكمل الدراسة الجامعية، ويمثل ذلك 13.3 % من القوى العاملة في البلاد، ولكن لن تستطيع ايران الاستفادة من هذه الامكانيات الكبيرة، بدون الاستثمارات الاجنبية. وتبلغ حاليا الاستثمارات الاجنبية 43 مليار دولار، والتي تأمل الحكومة الايرانية لرفعها إلى واحد تريليون دولار، خلال الخمس سنوات القادمة، أي 25 ضعفا. وقد حاولت ايران من قبل التحول لاقتصاد السوق الحرة، فبعد ان اممت اصول الدولة في عام 1979، وبعد ثمان سنوات حرب مرهقة مع العراق، دفع الرئيس السابق، هاشمي رفسجاني، لخلق اقتصاد سوق حرة، بخصخصة 80% من مؤسسات القطاع العام، ولكن كانت تلك تجربة اسمية لا فعلية، حيث وزع الرئيس الأسبق احمدي نجاد 50% من مشاريع الخصخصة على مؤيديه الفقراء، والذي نتج منه انخفاض ربحية هذه المؤسسات، لعدم فهمهم بالتجارة، بينما وزع النصف الثاني على مؤسسات الحرس الثوري، والمؤسسات العسكرية والدينية، وجميعها مؤسسات مرتبطة بمسئولين سابقين في ادارة الدولة، وبدون محاسبة، ولا شفافية، لتنتهي جميع هذه الشركات الخاصة بالخسارة. كما ان المؤشرات الاقتصادية الدولية لإيران ضعيفة، فمثلا ترتيبها في مؤشر سهولة التجارة 130، وترتيبها في المحفاظة على الملكية الفكرية 111، كما ان ترتيبها في مؤشر الشفافية وانتشار الفساد 136، أما ترتيبها في المنافسة العالمية التجارية 83. كما ان السوق الإيرانية ضعيفة في تطورها التجاري، ومتخلفة في تكنولوجيات السوق المالية، مع ضعف كفاءة في سوق العمالة. وستعرقل جميع هذه المعوقات عملية انتقال الاسثمارات الخارجية لايران، كما ستقلل النخبة المحافظة ببلاغاتها الثورية من تشجيع دخول رؤوس الاموال. ويبقى السؤال: كيف يمكن لايران خلق اصدقاء جدد؟
ويبدو بأن على إيران أن تحرر سوقها بجدية، وبعدها قد ترجع الكثير من الخبرات والاموال الايرانية، والاستثمارات الأجنبية للبلاد. ويحتاج ذلك لقوانين وانظمة لحماية هذه الاستثمارات، مع توفر الشفافية والمحاسبة، وخفض نسب الفساد، ومحاكمة المفسدين جديا وبصرامة. كما ستحتاج الاستثمارت الخارجية، لنظام مالي مصرفي شفاف ومستقر، وبدون تدخل حكومي، وبالرغم من ضرورة بقاء صناعة النفط والغاز تحت الادارة الحكومية، ولكن يجب ان تخصخص القطاعات التجارية، والصناعية، والمالية، والخدمية الاخرى. كما على ايران ان تطمئن المستثمرين بان العملة الايرانية قوية، وغير معرضة لطوفانات مدمرة، وبأن نسب التضخم مسيطر عليها، وذلك بوجود بنك مركزي مستقل، وبخبرات كوفؤة وعالمية.&&&&&&
كما ناقش بروفيسور مايكل ماندلبوم، كيف يمكن منع القنبلة الإيرانية، فقال: "لقد فقدت إيران العصر الذهبي للعولمة من عام 1998 وحتى عام 2007، في الفترة التي إنصبت الاستثمارات على الاقتصاديات الصاعدة.. ويقال بأن رأس المال يذهب في المكان الذي يرحب به، ويبقى في المكان الذي يعامل بتقدير. فالمستثمرون سيبحثون في إيران عن حقائق فعلية، الفوائد الطويلة الامد، وأدلة التحول لسوق عولمة حرة، بل سينظرون للبرغماتية على حساب العقيدة والايديولوجية، والإنفتاح على حساب الانغلاق، وقواعد بناء متينة، على حساب تجميلات سطحية قصيرة الأمدد. فلو هدأت حمى الثورة الإيرانية، وبدأت ترحب إيران بالمستثمريين، فأول موجة من المستثمريين الاجانب سيكونون، من الذين لديهم شهوة المخاطرة وجيوبهم مليئة، وسيطالبوا بربحية كبيرة، واذا احترمت رؤوس اموالهم، ستتبعها رؤوس اموال أكثر، وبأقل شروط، وان لم تحترم، فهناك أماكن اخرى ترحب بهم. والإصلاحات الاقتصادية ليست سهلة أبدا، وقد يقاومها الجناح الإيراني المتطرف في الحكم بشدة، لتزيد من معوقات التنمية والكفاءة، ولو أرادت إيران ان تجني ثمار المرحلة القادمة بعد رفع العقوبات، على الاصلاحيين ان يقنعوا، المتشائميين من السوق الحرة والاستثمارات الاجنبية، بأن الاصلاح فرصة لربحية الطرفيين، لتسمح لبناء ثراء الامة الايرانية. كما عليهم ان يتخلصوا من عقدة أن تحرير السوق تقلل من هيبة الدولة، بل بالعكس، الإنتقال للسوق الحرة تحتاج لحكومة قوية، تحافظ على القانون، وتحمي استقرار السوق الحرة. فقوة الدولة لن تقل، بل سينتقل دورها من تحريك الاقتصاد، الى المحافظة على سوق تنافسية اخلاقية وحرة."
بينما ناقش الاستاذ عبد الرحمن الراشد، خطورة التغيرات المناخية على المنطقة، المنشغلة بالصراعات والحروب، فقال: "اخر الدراسات العلمية تقول، بأن الحرارة والرطوبة ستبلغان في منطقتنا، بعد ستين عاما، سبعين درجة مئوية، درجة يستحيل على أهل شبه الجزيرة العربية (وإيران) السكن فيها.. فقبل البترول كانت شبه الجزيرة العربية دائما أرضا طاردة لسكانها، بسبب مناخها وجفافها. وهربا من المجاعات، اعتاد سكانها على الهجرات في موجات بشرية متعاقبة إلى الشام وشرق أفريقيا.. واستمرت قبائل العرب تهاجر مئات السنين، قبل وبعد الاسلام، كقبائل مقاتلة وصلت إلى أوروبا وشرق اسيا. وحتى بعد ظهور الاسلام، لم يبق العرب في شبه الجزيرة، ولم يسكن أحد من خلفاء الدول الإسلامية، منذ الأمويين وحتى العثمانيين، في شبه الجزيرة العربية، جميعهم رحلوا من شبه الجزيرة العربية إلى بغداد ودمشق والقاهرة وغرناطة وإسطنبول، وأقاموا ممالكهم على مدى ألف وثلاثمائة عام..& العلماء يتنبأون ارتفاع الحرارة والرطوبة القاتل سيبدأ بعد ستين عاما، لكننا نعرف ونشعر كيف أن الحياة اليوم صعبة مع تناقص المياه، وتزايد الحرارة. وليس لنا من حلول سوى الانخراط في العلوم، والتركيز على دراسات تعني بالبيئة المحلية."
ومن الواضح من هذه المناقشات بأن التحديات التي تواجهها أيران ومنطقة الشرق الاوسط تحديات تهديد وجود، وليس فقط من المتطرفيين ضمن هذه الدول، ولا فقط من التنظيمات الارهابية، بل وايضا من تحديات التغيرات المناخية، بالإضافة للحروب المتكررة، بالقنابل المخضبة باليورانيوم. ولو أضفنا لكل ذلك مشاريع المفاعلات النووية في المنطقة، وامكانية تسرب اشعاعتها لهواء ومياه الخليج، مع مشاريع الاسلحة النووية، والتي تملك منها اسرائيل حتى الان ما يزيد عن مائتي رأس نووي، وما قد يليه من رؤوس نووية مستقبلية في المنطقة. فيبقى السؤال: بعد 36 عاما، هل حان الوقت ليتعض الجناح المتطرف من النظام الايراني، للحاجة لخفض حمى الثورة، والبدء بعمل تناغمي مع الجيران والمجتمع الدولي، لخلق سوق شرق أوسطية مشتركة، لتنعم شعوب المنطقة بالاستقرار والثراء، وتزدهر دولها نحو النمو والتقدم والازدهار؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان