قبل الدخول في الموضوع، دعونا نتوقف عند تعريف مقتضب للبطالة، وأسبابها وأنواعها وأخطارها، ومن ثم الغوص في أسباب البطالة الحادة، التي يعاني منها إقليم جنوب كردستان، وسبل علاجها.

البطالة، هي ظاهرة إقتصادية حديثة العهد، وبدأت بالظهور مع نمو الصناعة وتطورها، ففي المجتمعات الريفية التقليدية، نادرآ ما كان المجتمعات تعرف البطالة، بسبب الحاجة لليد العاملة في ظل غياب المعدات الحديثة والألات وقتها.
والعاطل حسب التعريف المتعارف من قبل الهيئات العالمية، هو كل شخص قادر على العمل وراغب فيه، ويبحث عنه، ولكنه لا يجده. ومن خلال هذا التعريف المقتضب، يتضح لنا بأنه ليس كل من لا يعمل عاطل عن العمل، فالتلاميذ مثلآ والمعاقين والمسنين والمتقاعدين وأصحاب الأعمال المؤقتة (الموسمية)، لا يتم أعتبارهم عاطلين عن العمل.

أسباب البطالة:
أولآ البطالة تختلف من مجتمع لأخر، وأحيانآ من منطقة لإخرى داخل البلد الواحد، ومن بيئة لإخرى. وللبطالة أسباب إقتصادية وإخرى إجتماعية وسياسية، ولكل نوع من هذه الأسباب أثارها السلبية المختلفة، على إقتصاد أي بلد وإستقراره الإقتصادي والسياسي والمجتمعي.
الأسباب الإقتصادية والسياسية:
- الإعتماد الكبير على الألة والتكنالوجيا الحديثة والروبوتات الذكية، بدلآ من اليد العاملة البشرية، في إتمام العمل وإنجازه.
- إنخفاض الطلب على العنصر البشري في إنجاز بعض الأعمال.
- إنتقال بعض الصناعات من بلد لأخر، بسبب رخص العمالة وإنخفاض نسبة الضرائب في بعض البلدان.
- توقف بعض الحكومات بالإستثمار في بعض الإقتصاد الذي يعاني من الركود، إما بسبب السياسات التقشفية، أو بسبب ضعف موارد الدولة.
- إستقدام عمالة أجنبية لرخصها من الخارج.
- الركود الإقتصادي أو تعرض الإقتصاد لأزمات مالية أو إقتصادية حادة مفاجئة، بسبب حدوث تأثره بتقلبات الإقتصاد العالمي، كما حدث عام 2008 مع كثير من الإقتصادات الوطنية.
- إرتفاع مفاجئ في أسعار الوقود، كالنفط والغاز لأسباب معينة.
- تعرض بلد ما لحصار إقتصادي، أو دخوله في الحرب وهروب رؤوس الأموال من البلد.
- التميز بين الباحثين عن العمل، على أساس العنصر والجنس والعمر واللون.
- رفع الضرائب على الشركات، وغياب المناخ الإستثماري الجاذب لرؤوس الأموال.
- إعتماد بعض البلدان على الإقتصاد الريعي، كما هو الحال مع إقتصاديات دول الخليج ومعهم العراق ومن ضمنه إقليم جنوب كردستان. هذه الإقتصاديات تعتمد إعتمادآ كليآ على بيع النفط والغاز. وكما هو معروف، إن أسعار الغاز والنفط عرضة لتذبب، الأوضاع السياسية والأمنية، في العالم وخصوصآ في مناطق تواجد النفط وخطوط الإمداد.

الأسباب الإجتماعية:
إن الأسباب الإجتماعية، التي تسبب في زيادة نسبة البطالة، يمكن تلخيصها في ثلاثة نقاط على الشكل التالي:
- إرتفاع نسبة النمو السكاني السنوي، مقارنة مع تراجع معدلات النمو الإقتصادي.
- تدني مستوى التعليم، وتخلفه عن ركب التطور التقني وعدم تناسبه مع سوق العمل.
- قلة الوعي لدى لدى بعض فئات المجتمع، بأهمية العمل الإقتصادية والإجتماعية، في حياة المرء، ودوره في تنمية المهارات الشخصية.

أنواع البطالة: البطالة لها عدة أنواع منها:
1- البطالة الهيكلية:
هذا النوع من البطالة، بنيوية الشكل وتصيب الكثير من الإقتصادات، بسبب التكلس في شرايين الإقتصاد وإتباع سياسات إقتصادية خاطئة، وعادةً يصاب بها الإقتصادات المركزية.
2- البطالة القطاعية:
هذا النوع من البطالة، تحدث بسبب تنقل العمال من قطاع ما لقطاع أخر مختلف، بسبب الركود الذي أصيب الأول، وإضطرار العمال إلى تعلم مهن جديدة غير مهنهم الأصلية للحصول على فرصة عمل جديدة، وتنتج أحيانآ أيضآ، بسبب تنقل البشر من منطقة لإخرى ضمن البلد الواحد.
3- البطالة الطبيعية:
هذا النوع من البطالة، ناتجة عن توازن العرض والطلب في سوق العمل.
4- البطالة الإقليمية:
هي ناتجة عن تدهور الحالة الإقتصادية، في إقليم معين من البلد، بسبب رحيل عن بعض الصناعات عنه، إلى مناطق إخرى.
5- البطالة الموسيمية:
هذا النوع من البطالة، مرتبطة ببعض النشاطات الإقتصادية، ذات الطابع الموسمي كالزراعة والسياحة وقطاع البناء.
6- البطالة الظاهرة:
نعني بهذه البطالة، هو عدم تمكن المؤهلين تأهلين جيدآ، من الحصول على عمل يناسب مؤهلاتهم العلمية، كالمحامين والمهندسين على سبيل المثال.
7- البطالة المقنعة أو المستترة:
هم في الواقع، أناسٌ بلا عمل، وإن كانوا رسميآ مسجلين كموظفين بدوائر الحكومة، ويذهبون كل إلى مكاتبهم.هذا النوع من البطالة يعاني منها أكثرية الدول النامية، ويرهق ميزانيتها الضعيفة أصلآ.

بعد هذا العرض الموجز، لأسباب البطالة وأنواعها، حان الوقت للحديث عن أزمة البطالة المستشرية في إقليم جنوب كردستان، والمراحل التي مرت بها وخصوصيتها وكيفية معالجة هذه الأزمة والحد منها. إن ظاهرة البطالة في جنوب كردستان، مرت بثلاثة مراحل أساسية، وكل مرحلة منها، إرتبطت بظروف سياسية وأمنية وإقتصادية، مختلفة عن الإخرى، وهذه المراحل هي:

1- مرحلة ما قبل إنتفاضة أذار عام 1991:
إن الفترة التي سبقت هذه الإنتفاضة المباركة، تعتبر الأسوأ في تاريخ الإقليم من حيث النسبة، وتردي الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية للناس، إلى درجة يفوق التصور. وخاصة لو قارن وضع الإقليم أنذاك، مع باقي مناطق العراق العربي يومها.

2- مرحلة ما بعد تحرير الإقليم من سلطة المركز:
بعد التحرير ملئت القيادة الكردستانية، الفراغ الذي تركته السلطة المركزية، وقيامها باعادة بناء المؤسسات والادارات الحكومية،& بالرغم من كل الصعوبات الاقتصادية والسياسية، التي كان يعاني منها الإقليم، بسبب الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الحكومة العراقية انذاك،&بالاضافة الى الحصار الاقتصادي الذي مفروضآ على الدولة العراقية ككل، من قبل قوات التحالف، بعد حرب تحرير الكويت.

لم يتحسن الوضع الإقتصادي للإقليم كثيرآ، بعد تحرره من قبضة نظام صدام وحكمه المستبد، رغم تخصيص الإمم المتحدة نسبة 13% من عائدات النفط العراقي المباع لإقليم كردستان، وهذا كان عائد لسببين رئيسيين هما:
أولآ، العراقيل والمشاكل التي كان يخقلها نظام الطاغية صدام حسين للإقليم. وثانيآ، الإقتتال الداخلي وتقسيم الإقليم إلى إدارتين، وهذا كان له تأثير سلبي كبير جدآ، على
مجمل وضع الإقليم وسكانه، وعلى جميع الاصعدة السياسية والنفسية والاقتصادية& والاجتماعية. ومع غياب الأمن والاستقرار، شل الاقتصادي، وضعف نشاط السوق وساد معه الكساد وإزدادت البطالة بشكل مخيف. أما العاملين في ادارات الاقليم، كانوا كل عدة أشهر، يحصلون مرة على رواتبهم، كما هو الحاصل الأن بالبضط.

3- مرحلة ما بعد تحرير العراق وتوحيد الإدارتين:
سوف نركز على هذه المرحلة أكثر من المراحل السابقة، كونها هي التي أسست بشكل أساسي لأزمة البطالة الحالية، وثانيآ بسبب مسؤولية الكرد عنها مسؤولية مباشرة. ولهذا

علينا أن نسبر أعماق هذه الأزمة، كي نخرج بتشخيص دقيق، ونستطيع وصف العلاج المناسب لها، ووضع الخطوات اللازمة لحل هذه الأزمة الخطيرة، التي تهدد مستقبل الإقليم وأبنائه، بعد أن وصلت نسبة البطالة في الإقليم إلى مستويات مخيفة، والتي قدرها بعض الجهات الدولية المختصة بهذا الشأن، بحوالي 35% من اليد العاملة وهي نسبة ضخمة جدآ. هذا عدا عن عدد العاطلين المقنعين وهم بمئات الألاف، ويكلفون خزينة الإقليم مئات الملايين من الدولارات شهريآ، دون أن يقدموا أية خدمة فعلية لمجتمعهم.

في الفترة الإولى من بعد توحيد الإدارتين جزئيآ، شهد الإقليم ما يشبه نهضة عمرانية، خاصة في قطاع السكن والفنادق والمطارات والمدارس، وشق الطرق، وفتح المراكز التجارية، وإعتمد الإقليم في ذلك على حصته من الميزانية العامة العراقية الضخمة، بسبب إرتفاع أسعار النفط بشكل كبير حينذاك، وثانيآ الإستفادة من أموال النفط والغاز، التي كان يبيعها حكومة إقليم كردستان بشكل مباشر، وثالثآ الإستثمارات الخارجية التي قدمت للإقليم، بعد تحرير العراق وإستقرار الوضع الأمني في الإقليم. وأكثرية هذه الإستثمارات، التي دخلت إلى سوق الإقليم، كانت تركية والبعض منها من دول غربية والخليج ولبنان.

ورافق هذه الطفرة العمرانية، تراجع في القطاع الصناعي إلى حدٍ كبير، وتدهور شبه كامل في القطاع الزراعي والثروة الحيوانية، بسبب إهمال الحكومة لهذه القطاعات الثلاثة لأسباب عديدة منها:
- عدم إدراك الحكومة المحلية، لأهمية هذه القطاعات ودورها لإمتصاص عدد كبير من اليد العاملة. وخاصة إذا علمنا بأن العراق بلد زراعي والإقليم جزء منه.
- فتح الإقليم أبواب أسواقه للمواد الغذائية المستوردة، والتي قضت على المنتوجات المصنوعة محليآ. وهذا دفع بالكثيرين من المزارعين ومربي المواشي، لترك مزارعهم وأراضيهم، وتحولوا إلى أناس عاطلين عن العمل مع أفراد عوائلهم، أخذوا يعملون في مهن إخرى.
- إعتماد حكومة الإقليم فقط على أموال النفط والغاز، وصرف الميزانية على بناء المولات والأبراج السكنية والتجمعات المصايف المكلفة، وأهملت الإستثمار في القطاع الصناعي والتجاري والزراعي والثروة الحيوانية، وبناء الإنسان من خلال تعليم حقيقي متطور، يتماشى مع حاجات العصر وسوق العمل.
- السياسات الإقتصادية الخاطئة التي إتبعتها الحكومات المتعاقبة.
- التوترات المستمرة بين الإقليم والمركز، ولجوء الحكومات المركزية إلى عدم تسليم الإقليم حصته من الموازنة العامة في الوقت المحدد، وقطع جزء كبير منها كل مرة، بهدف الضغط على الإقليم، من أجل تحقيق مصالح سياسية معينة.
- تفشي الفساد في مؤسسات الإقليم وعلى كافة المستويات.
- هبوط أسعار النفط في السنتين الأخيرتين بحوالي 50%.
- عودة الصراع السياسي الحاد، بين الأطراف السياسية الحاكمة في الإقليم، ومعاناة الإقليم من أزمة حكم حقيقية، بسبب إغتصاب البرزاني وعائلته للسلطة.
- دخول الإقليم في حرب مفتوحة، مع تنظيم داعش الإرهابي منذ أكثر من عام، وهذا ما دفع بالكثيرين من المستثمرين والشركات الأجنبية من مغادرة الإقليم، بعد إقتراب داعش من مدينة هولير، ودخول الإقليم في أزمته السياسية الراهنة.
- إستقطاب عمالة أجنبية رخيصة للإقليم، كالعمالة الفلبينية.
- تدفق حوالي مليون ونصف لاجئ عراق وسوري الى لإقليم، وهذا أثر سلبآ على سوق العمل.

هذه هي الأسباب، التي أدت إلى زيادة نسبة البطالة بهذا الشكل المخيف في الإقليم، والتي أخذت تهدد إستقراره إذا لم تحل بشكل سريع قبل تفجر الأزمة. وهذه الأزمة الحادة دفعت بالكثيرين من الشباب الكردي، إلى الهجرة لدول أوربا الغربية، بحثآ عن العمل ولقمة العيش. وإلى جانب ذلك لدينا مشكلة البطالة المستترة، وهي لا تقل خطرآ على إستقرار الإقليم ومستقبل أبنائه من الإولى.

إن الحزبين الحاكمين في الإقليم الحزب الديمقراطي والإتحاد الوطني، هما مسؤولان مسؤولية مباشرة، عن هذه البطالة المستترة والتي ترهق ميزانية الإقليم. حيث أن كل حزب أخذ يوظف أعضاء حزبه ومواليه، في دوائر الحكومة ومؤسساتها، لكسب ولاء هؤلاء الأشخاص وضمان أصواتهم في الإنتخابات، وهذا ما أدى إلى تضخم هائل في عدد الموظفين العاملين في دوائر الحكومة، والذين فاق عددهم مليون و 300 ألف موظف. وهذا رقم ضخم جدآ نظرآ لعدد سكان الإقليم، والذين يقدر عددهم بنحو ستة (6) ملايين مواطن.
وجرى سباق حميم أخر بين الحزبين، فجال توظيف أكبر عدد ممكن من الشباب في صفوف القوات العسكرية والأمنية، التابعة لكل حزب على حدة، وهذا أيضآ، يكلف خزينة الحكومة الكثير من الأموال شهريآ.
والقضية الإخرى التي تزيد من سوء الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية لسكان الإقليم، هو عدم دفع رواتب الموظفين، كل ثلاثة إلى أربعة أشهر مرة واحدة، وهذا ما يؤثر سلبآ، على الحالة المعيشية للناس وحالتهم النفسية، وخاصة في ظل حالة الغلاء الفاحش التي يشهدها أسواق الإقليم.

إن إستمرار الوضع كما هو عليه الأن، يهدد بانفجار الوضع من الداخل، وهذا الإنفجار إن حدث، فهو أخطر من تهديد تنظيم داعش على الإقليم، لأنه تهديد داعش أني ولا يهدد وحدة المجتمع الكردستاني وتماسكه. ولهذا مطلوب حلآ يتكون من مرحلتين:
- المرحلة الإولى، يجب أن تكون سريعة، الهف منها تلافي الأثار السلبية المباشرة للأزمة، وكي لا ينفجر الوضع في وجه الجميع، والهف الأخر السريع إمتصاص الضغط والإحتقان الذي يعيشه الشارع الكردي في الوقت الراهن، بسبب هذه الأزمة الخانقة.
- المرحلة الثانية، يجب أن تكون هادئة وطويلة الأمد، كي نتمكن من معالجة هذه الأزمة من الجذور.

سبل علاج البطالة:
إن القضاء على البطالة، يحتاج إلى وضع خطة شاملة، تعالج مسبباتها من جذورها، بهدف القضاء عليها، أو الحد منها على الأقل. وفي حالة إقليم جنوب كردستان، أوردنا أنفآ بالتفصيل أسباب البطالة المرتفعة في الإقليم، ويمكن العودة في أي وقت. وبرأي لا يمكن حل هذه الأزمة أو غيرها من الأزمات، التي يعاني منها الإقليم، ما لم تحل أزمة الحكم أولآ، وعودة الحياة البرلمانية الحقيقية للإقليم ثانيآ. لأن أزمة البطالة بحاجة إلى قوانين وتشريعات وقرارات، صادرة عن البرلمان وموقعة من رئاسة الإقليم. وقبل ذلك الأمر بحاجة إلى إرادة سياسية مخلصة، وتعاون جميع الأطراف المعنية بالأمر، وحشد جميع الإمكانيات والطاقات لحل هذه المعضلة الإقتصادية والإجتماعية الداهمة.

وللأسف الشديد هذه الإرادة الوطنية المخلصة، غير متوفرة في الوقت الراهن، ولا أظن القيادات الحالية الفاسدة والمستبدة، التي تسببت بكل ذلك الأزمات، قادرة على القيام بهذه المهمة الضخمة. القضية بحاجة إلى قيادات جديدة وغير ملوسة بالفساد، ويكون قلبها على شعبها وبلدها وتكون في خدمتهم، وليس إملاء جيوبها من المال العام، والتسبب في تعميق الأزمة أكثر فأكثر.