يتصدر العراق في الوقت الحاضر رأس قائمة الدول المستهلكة وغير المنتجة في العالم باستثناء قطاع الإنتاج النفطي والذي يعتمد عليه البلد بشكل كلي للإنفاق العام و بكل أشكاله كبناء مشاريع البنى التحتية والخدمية وتوفير سلع الحصة التموينية التي مضى على اعتمادها خمسة وعشرون عاما إضافة إلى مرتبات الموظفين الشهرية والتي تشكل حوالي 70 بالمائة من الموازنة السنوية للبلد, ولذلك فإن العراق من أكثر الدول المتضررة من هبوط أسعار النفط العالمية التي سببت عجزا كبيرا في موازنته السنوية لهذا العام و للعام القادم, لقد قدر خبراء البنك المركزي ووزارة المالية عجز الموازنة للعام 2016 بحوالي 26 مليار دولار وهو مبلغ ليس بالهين. فقبل العام 2003 كان العراق يصدر نفطا بقيمة 4 إلى 6 مليارات دولار سنويا وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 986 تحت عنوان النفط مقابل الغذاء والدواء حيث وفرت الادوية الضرورية وعززت كمية ونوع المواد الغذائية الداخلة في الحصة التموينية , فقد وصلت إلى أربع عشرة مادة غذائية في الوقت الذي أصبحت الحصة التموينية اليوم فقيرة كما ونوعا وغير كافية لعدة أيام مع موازنة تجاوزت عتبة المائة مليار دولار سنويا؟؟ إن سوء التخطيط وغياب الخطط الخمسية والعشرية وغيرها من الخطط الاقتصادية وانعدام الخبرة وتفشي الفساد في كل مفاصل الدولة شكلت بمجموعها القشة التي قصمت ظهر البعير, لقد حاول رئيس الوزراء العراقي أن ينقذ الوضع في محاولة جاءت متأخرة, فوضع حزمة إصلاحات كما أطلق عليها لتدارك الأزمات التي حلت بالبلد ومن ضمنها الأزمة المالية لكنها لم تكن العلاج الشافي والوافي لحل الأزمة بل لم تكن حتى تخديرا مؤقتا لتقليل الأوجاع التي ألمت بالاقتصاد العراقي, ومن بين تلك الإصلاحات المالية التي طرحها رئيس الوزراء تخفيض رواتب الموظفين وإيقاف صرف مخصصات موظفي الرئاسات الثلاث والأكاديميين وغيرهم وإلغاء بعض الوزارات ودمجها مع وزارات أخرى كذلك إلغاء بعض المناصب القيادية والدرجات الخاصة, لم تجد هذه الإصلاحات نفعا بالمرة بل أنها خلقت أزمات أخرى ليست في المنظور الآني لكنها ستظهر على المدى المستقبلي القريب ومن ضمنها القروض المصرفية الكبيرة التي اقترضها موظفو الدولة من البنوك العراقية والتي في معظمها كانت من البنوك الحكومية وبالتالي من موجودات البنك المركزي النقدية كقروض السكن وقروض السلع الكمالية كالسيارات وغيرها, هذه القروض كانت مؤمنة الدفع من خلال راتب الموظف العالي نسبيا والذي شكل له مصدرا آمنا دفعه إلى الاقتراض وخصوصا العوائل العراقية التي لديها أكثر من موظف واحد ضمن نفس العائلة, لقد خلقت هذه الخطوة ثغرا أخرا بحاجة إلى غلق ووضعت البنوك المقرضة حكومية وغير حكومية في مأزق الديون المتعثرة السداد والتي تشكل عائقا كبيرا في استمرار العمليات المصرفية الاعتيادية لعدم توفر السيولة النقدية حتى أن الكثير من المصارف اتخذت إجراءات أضعفت ثقة المواطن بهذه المصارف مثل تحديد مبالغ السحب النقدي خصوصا لزبائن المصرف من غير الموظفين, تجار بحاجة إلى النقد لتمشية تجارتهم و موفرين بحاجة إلى سحب مبالغ نقدية عالية لشراء بيوت أو سيارات أو ما شابه ذلك حتى أن مئات الشكاوى وصلت إلى البنك المركزي ضد تلك البنوك لكن البنك المركزي لا يستطيع مقاضاة كل البنوك أو معاقبة إدارييها لأنها ليست السبب إنما قرارها كان نتيجة لأسباب خارجة عن إرادتها, وهذا الحال سيجر إلى مشاكل اكبر و أوسع وهي استرداد القروض من المقترضين وخصوصا الموظفين فليس من المعقول أن تحجز البنوك على بيوت الآلاف ممن اقترضوا من المصارف لبنائها ولو افترضنا ذلك جدلا فهذا سيعيدنا إلى حالة (المورتكيج ) أو الرهن العقاري التي وقعت فيها البنوك الأمريكية المقرضة عام 2008 والتي شكلت حجر الزاوية للازمة المالية العالمية الحالية, فالحل ليس بهذه الإصلاحات غير المجدية وإنما بإيجاد بدائل مدروسة تدعم الاقتصاد الوطني المتهالك, ومنها
1- إعادة النظر في النظام الضريبي وتنظيم استحصال الضرائب وفرض ضرائب تتناسب مع المدخولات ووضع نظام ضريبي بعيد عن الكيفية والتخمين الشخصي في فرض الضريبة وإتباعه بنظام رقابي صارم يحدد مدد زمنية لدفع الضرائب وفرض ضرائب عالية على المستورد من السلع الكمالية.
2- تنظيم عملية الاستيراد بشكل يجعل منه التركيز على السلع الاستهلاكية في الاستيراد والتقليل من استيراد السلع الكمالية.
3- خصخصة بعض القطاعات الحكومية على أن لا يؤثر ذلك على مكانة الدولة ودورها في قطاعات أخرى ذات صفة سيادية, وبالأخص قطاع الكهرباء والطاقة وهو ما معمول به في معظم دول العالم لضمان توفير الطاقة الكهربائية بشكل سليم وتحت رقابة الدولة على الشركات المجهزة للطاقة الكهربائية, هذا القطاع الذي يعتبر العصب الحيوي لتنفيذ كل المشاريع عجزت الحكومات المتعاقبة منذ 2003 وحتى اليوم من إعادة تأهيله رغم صرف المليارات التي ضاعت بسبب الفساد وضعف الرقابة الحكومية.
4- - تشجيع المشاريع الصناعية المحلية وخصوصا الاستهلاكية وتشديد الرقابة وفرض الضرائب العالية على المنتجات المستوردة من الخارج خصوصا الكمالية منها, وهذا بدوره سيفسح المجال لتوفير النقد ناهيك عن توفير الآلاف من فرص العمل للعاطلين والتقليل من مستوى البطالة الذي فاق الحدود .
5- تطوير القطاع الزراعي والحيواني والحد من ظاهرة تجريف الأراضي الزراعية والاعتماد على المنتج المحلي من الفواكه والخضر واللحوم وذلك بالعودة إلى الفقرة 1 و 4 أعلاه بتشديد الرقابة على الاستيراد وفرض ضرائب عالية على السلع الزراعية والحيوانية المستوردة لتوفير الفرصة لتسويق المنتجات المحلية.
6- توفير البيئة الاستثمارية وتشجيع الاستثمار الأجنبي خصوصا في تلك المحافظات والمناطق الآمنة و تعديل فقرات قانون الاستثمار التي تقيد وتحدد رغبة المستثمر في الاستثمار بل تمنعه من الاستثمار.
كل ما تقدم من مقترحات وعشرات المقترحات الأخرى المطروحة من شأنها تنمية الاقتصاد المحلي وتقليل العجز النقدي الحاصل في الموازنة ولو بشكل جزئي لحين تعافي أسعار النفط لإعادة النظر في استخدام عوائده بالشكل الذي يجعل منه الأساس الداعم لتلك المشاريع وخلق مشاريع أضخم لإنعاش الاقتصاد العراقي كما فعلت دول الخليج العربي والكثير من الدول الأخرى في استثمار عوائدها النفطية بالشكل الذي يؤدي إلى ضمان دعم اقتصادياتها في حال نفاد النفط أو انهيار أسعاره كما حصل اليوم.

أكاديمية في مجال المال والمصارف – باريس&
&
&