في نعومة أظفاري، لم أكن بعد قد اختبرت تعرجات الحياة وتضاريسها؟. لم أفهم سبب تجاعيد وجه والدتي التي كانت قد بدأت بالتكون؟. لم أكن على يقين بأن ما يشعر به والدي من ارهاق نتيجة عمل أو ضغط أو متطلبات حياة "صعبٌ" إلى الحد الذي يجعله يعود وينام لساعات – ان استطاع-؟. في نعومة أضافرنا عندما نقول نريد، فذلك يعني: أن يكون؟، كيف؟. لا نعرف ولا نريد معرفة الجواب، المهم أننا نريد وأن يصل ما نريد دونما أي اعتبار أو وعي لما يجري من خفايا المنزل وإدارته، إلا أننا في الوقت ذاته لم نكن نعلم بعد أن الحياة في بعض تفاصيلها آنذاك "بسيطة" رغم كل ما فيها من عثرات وأخطاء تخطت حدود تلك نعيشها اليوم بكثير. في لحظات باغتتنا الحياة فصرنا فجأة كباراً، نسينا أنفسنا ونسينا الآخرين، صحيحٌ أننا قمنا بثورتنا، لكننا نسينا أنفسنا بعد ذلك، لأننا أطلقنا صرختنا الأولى ضد الظلم، الذي رضعنا منه لأجيال، لكنا وجدنا أنفسنا نمشي بـ"علم أو بلا علم" مع دول صديقة اصطحبت بلادنا معها إلى دهاليز السياسة العفنة كـ "فئران تجارب" لطالما كنا نراها في أفلام الرسوم المتحركة، دون أن ندري أن وصفتهم المسمومة ستحولنا إلى "قاتل" أو "مقتول" على طريقة هابيل وقابيل لكن على الطريقة السورية هذه المرة؟.

إن أفعالنا ما هي إلا انعكاساً لواقعنا الذي نعيشه اليوم في خضم الحروب التي تحاكي القتل والدمار وكره الانسان لأخيه الانسان، تلك الأفعال التي قد تتحول إلى مرض نفسي يعيش في داخلنا، أو أداة قاتلة تبرر الغاية المنشود تحقيقها؟. حتى لو تطلب ذلك التفنن في إيجاد أدوات تنتهك أبسط قوانين الانسانية والعيش المشترك.

في الأزمة السورية، اكتشفنا معادن بعضنا البعض، وحرقنا أوراقنا التي نخبأها، واشترينا هوية جديدة لأنفسنا، علنا نصحح ما كان قبل سنوات خمس مضت بكل ما فيها من أطياف الكره والعبث بأروحنا.قلنا أننا نبني مستقبلاً نكاشف فيه أنفسنا وإذا بنا نبني وهماً قتلنا وأخفى في داخله سراب الخلاص، أوجدنا باختصار "هابيل" السوري. مع مرور الوقت أصبحنا نتفنن في وضع أنفسنا في أقفاص، أكلنا لحوم أجسادنا، سرقنا بعضنا البعض، في لحظة تخطينا فيها حدود الانسانية، نسينا ما قامت عليه ما كانت تسمى يوماً "ثورة"؛ قلنا إن الدم يولد الدم وهذا من الناحية النظرية "صحيح"، لكننا أمعنا في تنفيذه على أرض الواقع، تعاملنا مع الدم السوري الذي يسال كل يوم على موائدنا كوجبة تفتح شهيتنا للطعام، إلى درجة أننا نفتقدها ونبحث عنها إن غابت يوماً لسبب أو ما؟

قد يكون في الواقع السوري المعاش من الأسى ما لا يطاق، ومن الجروح ما لا يمكن لطبيب أن يحتمل مداواتها، لكننا قبل أن نشخص الحل، لا بد من العودة إلى أنفسنا نحن معشر السوريين علنا نجد بارقة أمل نتخلص فيها من شرورنا التي جعلت منا "هابيل" يتقمص أجسادنا، ويسيطر على أفعالنا. قد لا يكون ذلك سهلاً، لكن أمام جبروت الموت الذي يلاحقنا كل يوم، علينا أن نقف أمام أنفسنا في لحظة مكاشفة صادقة، أن نجلس مع أنفسنا ونتحاور معها، أتمنى أن نعود صغاراً في أفكارنا، لنروضها من جديد، بحثاً عن أمل جديد ينتشلنا مما نحن فيه. فهل هذا مستحيل؟

&

[email protected]