&

أن أبدأ حديثي عن مفهوم كلمة الأدب وما تتضمنه هذه المفردة من اعتبارات ومعايير &لغوية،من المحتم أن يستنفر من الموضوع من لا يدرك فحواه وأبعاده، لتشمل بالتالي مجموعة كبيرة ومماثلة من القراء الذين هم بعيدون عن الواقع الأدبي، وبشكل مباشر من العنوان الرئيسي والبارز الذي يتوج ويتصدر المقالة الخاصة بالأدب وما تستوعبه هذه المفردة من حقول متفاوتة، ليقتصر الأمر فيما بعد على النزر اليسير من ذوي الإهتمام الأدبي، بدلالة ما تؤكده إحصاءات مشاهدات هذا الحقل في الصفحات الأدبية الألكترونية والأعمدة المخصصة لها، ناهيك عن حقول النشريات الأخرى الورقية من المطبوعات. وهنا يبدو ويؤكد القراء العاديون والسطحيون بأنهم يشكلون أضعاف من هم من ذوي الإختصاص والإهتمام بالشأن الأدبي. ليغيب عن بال القارئ العادي من تقييم وتقدير الجهد الذي يبذله الكاتب فيما يتوصل اليه من أفكار إيجابية لإستمالة النفوس وإيصالها للناس لتدري بالنفع الخاص والعام لهم، علماً بأن الغالبية العظمى من القراء يقضون يومياً ما لا يحصى من الساعات في تصفح آليات النشر الحديثة، ومن ضمنها وأهمها في نظرهم تلك المألوفة بمواقع التواصل الإجتماعي كالفيس بوك والماسنجر وما شابه ذلك، غير مستدركين بأنها اصبحت الشغل الشاغل لهم والشبيبة على نحو خاص، لإحتوائها شذر مذر من الكلام والصور ومقاطع الأفلام الغريبة دون التمييز بين الغث والسمين، لكون الغث أو الردئ أصبح من سمات العصر حين يُصاغ ويُطعم بإشهار مشوق لإغواء القارئ أو المشاهد بتعليقات واهية ومرتجلة، ناهيك عن تلك الإعلانات المزخرفة والمزركشة بأزهى الألوان وأجمل العبارات للمواد المقصودة، وبتفوق أثمان صياغتها ونشرها أضعاف سعر مجموعة الكتاب الواحد. هذا ما يبدو واضحاً وجلياً في كافة الحقول الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وما شاع مؤخراً من خلال ذلك الجهاز التلفوني الساحر أو تلك الآلة الصغيرة المتعددة الأنواع &التي تتلاعب وتتراقص أصابع اليد عليها بخفة متناهية أينما تواجد حاملوها في المقاهي والقطارات والشوارع وأماكن أخرى.
إن ما دعاني لتدوين هذه الديباجة هي المصادفة التي حتمها عليّ فضولي وبشكل تلقائي لزيارة مكان منزوٍ ومختص بعرض المواد والحاجيات الفائضة لدى المتبرعين لدعم مساهمات مناداة وأهداف بعض الجمعيات الخيرية المعروفة بـ " السيكن هاند " التي تسعى لدعم المحتاجين والمعوزين في بعض الدول. كان ذلك في إحدى المدن السويدية، حيث تتصدر واجهة المحل وعلى مرآى من الزجاج العازل للفت انتباه المارة ببعض التحف النادرة أحياناً. وفي جولة بين اروقة المعروضات، فإذا بي أمام أكوام من الصناديق التي تشكو الإنعزال والملآى بأنواع من الكتب إلى جانب سلسلة طويلة من الرفوف المثقلة بما لا يحصى من المطبوعات القديمة والحديثة وكأنها متجر تراثي لبيع الكتب النادرة، ليخونك الإعتبار والتأمل بأسف بالغ لذلك الجهد الفكري والثقافي المميز بعد تصفح البعض من الكتب لتثبت حداثتها بدلالة تاريخ إصدارها، والقسم منها بتكرار ذات النسخ وكأنها صدرت حديثاً من المطابع لتجد مكانها في البيئة التي لا تلائم تواجدها، رغم أهمية مضامينها لدى الذين يحاورون أنفسهم عنها من خلال تجاربهم ومما يستنبطون من أحداث واقع المجتمع الذي يتعايشون معه ليتم تزاوجها بولادة مبادئ جديدة معمذة بعناوين الكتب الصادرة.&
وهنا خطر على بالي ما كنت قد سمعته وقرأته عن شهرة " سوق مريدي " الذي كان يجمع كل ما بحاجة المشتري من المستعمل والمستحدث من المواد وبما فيها من الجرائد والمجلات والكتب، وكما يشار أحياناً بإستصغار واستهجان البعض من حملة تسمية لقب " الدكتور والماجستير أيضاً " من تلك السوق التي هي بمثابة الجامعة التي لا يعترف بها دولياً. وهذا ما تؤكده الفترة الزمنية وطرق الدراسة التراسلية لحملة تلك الألقاب التي تتعارض بمقارنتها مع الجامعات الرسمية والمعترف بها رسمياً في سجل الدراسات العليا دولياً ، وغياب اطروحاتهم من التسجيل الرسمي المتعارف عليه.
إن الغرض الرئيسي من هذ العرض الغريب هو أن يختلط الحابل بالنابل، أي بما معناه المجهود الفكري والتثقيفي لمن يشار اليهم بالبنان من المبدعين والمتميزين لتكون اسماؤهم بمصاف من لا تجدي أعمالهم نفعاً، وتقييم نتاجاتهم على حدٍ سواء بذات القيمة والمكانة بأبخس الثمن، وبالسعر الذي لا يرتضيه حتى الجهلاء، وكأنك تساوي ما بين نبته تفوح بالعطر الزكي ونبتة مجاورة تزكمك نتانة أشواكها لتواجهك نسمة كأداء.&
ومما لا شك فيه أنه من بين تلك العطاءات الفكرية كالكتب التراثية النادرة واللوحات الفنية الشهيرة، تجدها وقد اتخذت طريقها إلى مكان آخر مشابه نوعاً يعرف بالمزاد العلني، ليتم عرضها والإعلان عنها بغية بيعها بالمزايدة المباشرة، فتكون المفارقة كبيرة جداً بين حشر كتاب قيم وذات أهمية بين كتب غايتها الترفيه والمخادعة بإمور خرافية وغيرها من الصفات التي لا تقل شأناً عنها. فتجد المفارقة والمقارنة كبيرة حين يصل سعر الكتاب أو اللوحة بما لا يصدقه العقل. وهنا قد تكون المصادفة أن يُحشر كتاب ما بين الكتب المهداة لمتجر ما دون معرفة المُستلم لقيمة ما ورده، وليُسعّره ويُثمّنه بأبخس الثمن دون معرفة شهرة ومكانة المؤلف ونتاجه الفكري الإبداعي، وقد يكون من حملة أعلى الجوائز التقديرية. ولكي أكون أكثر صدقاً وواقعياً مما عرضناه، صادفني في يوم ما زيارة صديق في مكتبة واسعة وغنية بما تحويه، فوجد كتاباً له أهميته الفكرية والتراثية مرمياً على أحد الرفوف المحتشدة بالكتب، تناوله ليسأل المكتبي عن سعره الذي خمّنه ما بين الخمسين والمائة دولار، فإستغرب صاحبي مبتسماً بعد أن أشار لسعره الرسمي من خلال الإنترنيت بثمنمائة دولار مع محدودية النسخ المتواجدة لدى إحدى دور النشر. وهذه دلالة على أن العديد ممن يتاجرون بالكتب ويتولون مسؤولية عرضها وبيعها لا علم لهم بأهمية هكذا مطبوعات وبمؤلفيها، والأدهى من كل ذلك أن يتراءى لك المخزون منها في صناديق كارتونية أسيرة الأقبية المظلمة النتنة لتكون طـُعْماً للفئران وحشرات العث بأنواعها المتعددة، متناسين قيمة نور الكلمة، وكما ورد في إنجيل يوحنا " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ." ولكي لا نحصر الأمر على قراء العربية من أهل الذمة، نوجه تساؤلنا بجملة أين هم قراء العربية من أولى الآيات القرآنية " إقرأ بإسم ربك الذي خلق..." بتسهيلهم على إحتضان تلك المتاجر المريدية نتاجات المؤلفين الذين سهروا الليالي وعانوا ما عانوا على نشرها بخسارتهم المادية والمعنوية بدلالة نسبة إحصاءات المكتبات الخاصة والعامة ودور النشر في البلدان العربية فيما يتعلق بالمبيعات، ومنها ما هو أيضاً في ديار المهجر في بعض الدول الكبرى المكتضة بقراء العربية من أصول ديارهم الأصلية من جذور عربية، مقارنة بقراء مواطني تلك البلدان التي حلوا ضيوفاً فيها. وأين القارئ العربي من فحوى المقولة الشائعة التي تردد دوماَ " الكتاب خير صديق للإنسان " ناهيك عن خلو بيته من رف واحد لتزينه الكتب بدل تحف الزينة، مقارنة بأصحاب بيوت مواطني تلك البلدان التي لا تخلو من أمهات الكتب، ربما تيمناً بمفهوم المثل العربي الشائع إلى جانب مثل الألفة الشائع لديهم مجسداً ذكاء وقوة ووفاء ومجالسة الكلب في المقولة التي مفادها " الكلب خير جليس وصديق للإنسان". وهناك أيضاً من الدلائل الكثيرة التي تجدي الإنسان وتنقذه من الصعوبات والإشكالات مقارنة ومقايسة بما ترمي اليه العديد من الكتب رغم صغر حجمها بمحدودية عدد صفحاتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتاب النبي لجبران خليل جبران وإبداعاته الأخرى التي لا تقل شأناً في مضامينها الفلسفية والتربوية الإرشادية والتوجيهية للتثقيف الذاتي، بدلالة طغيانها مكتبات العالم بترجمتها لأكثر من خمسين لغة. آملين أن تستيقظ الضمائر لقراء العربية مهما كانت جنسياتهم لتقييم وانتشال مطبوعات المبدعين من أسواق مريدي تقديراً لقيمتها وأهميتها ومنافعها، لتطمئن أرواح من خلفوا لنا عصارة جهدهم لخدمة البشرية والحضارة الإنسانية.
كاتب آشوري عراقي
&