يحاول كثيرون الدفاع عن سنوات الفشل والتخبط والفساد، التي عصفت بالحكومات الشيعية المتعاقبة منذ الاطاحة بصدام حسين عام 2003 وحتى الان، لكن شمس الحقيقة لايمكن تغطيتها بغربال، برغم ان بعض الكتاب العراقيين المحسوبين على الاسلام السياسي الشيعي يقولون انه: لايمكن ان يختزل نجاح او فشل, هذا الاسم الكبير (الشيعة), في إدارة الحكم, بشخص او حزب.

وحتى هذه اللحظة، لم يستطع السياسيون الشيعة فهم وادراك الرسالة الواضحة التي يرسلها الحراك الشعبي في الجنوب العراقي وتظاهراته، وهم أول من نادى بصوت عالٍ (باسم الدين باكونه الحرامية)، اذ مازالوا يُعوّلون حتى الآن على قواعدهم في المحافظات الشيعية التي طردتهم، ظناً منهم ان محاولات اثارة الفتنة الطائفية ستنطلي مجدداً على عرب جنوب العراق.

ولعل أبرز ما وصلت إليه تظاهرات العراقيين هو الإصرار على تواصلها، وكشفها لأسباب الكارثة التي يمر بها العراق، بسبب النظام السياسي وفشل الأحزاب الدينية (الشيعية والسُنيّة) في ادارة الحكم، وهذا ما أزعج قيادات هذه الأحزاب، التي سعت إلى وضع العراقيل لتعطيلها عن طريق حملات التشكيك بدوافع تلك المظاهرات والعمل على فسخ علاقة المرجعية بها كونها الحامي الأول لها، وليس رئيس الوزراء حيدر العبادي المضطر إلى مجاراتها وإلا تتحول الشعارات إلى دعوات لرحيله.

ولأول مرة منذ سقوط النظام السابق تجاوزت التظاهرات حاجز الخوف ودخلت في مكاشفة بين الشعب وحكامه الاسلامويون، وفي أهم قضية هي الفساد المالي والإداري والنهب العام المنظم لثروات العراق، وسحب الحصانة (المقدسة) التي تسترت خلفها تلك الأحزاب منذ 2003 وإلى حد اليوم.&

وتشير جميع المعطيات السياسية إلى أن (12) عاما من الحكم الشيعي أصبحت كافية للسكوت عليه، فخلال السنوات الثمانية الاخيرة، عايش العراقيون حكمًا استبدادياً برسم ديمقراطي شكلي، بينما الواقع يؤكد أن الفساد بلغ مستويات غير مسبوقة جعلت العراق يحتل المرتبة الأولى في مؤشرات الفساد، على أجندة منظمات الشفافية والنزاهة الدولية. وضاعت مليارات العراق في صفقات مشبوهة، حتى أضحت شبكات الكهرباء والخدمات عموماً في مستوى لا يلبي حاجات الناس، فحكام العراق الجدد ليس لديهم وقت لبذل الجهد وعقد اجتماعات التخطيط والمتابعة لحل مشاكل العراقيين، ولكن عندهم كل الوقت لنهب ثروات العراق والتخطيط مع الأميركان لمواجهة (فزاعة الإرهاب وتنظيم داعش).&

واذا كانت التظاهرات قد خرجت أولاً في بغداد، إلا إن الحراك الشعبي أخذ يتّسع تدريجياً، بالتزامن مع نبرة عدائية ضد الأحزاب الدينية وتدخّل رجال الدين، وضد النفوذ الإيراني بالبلاد. وهي المرة الأولى التي تُرفع فيها شعارات عدائية ضد إيران بهذا الشكل، خصوصاً في مناطق جنوب العراق وتحديداً في محافظة ذي قار.

وتلخّصت أبرز مطالب المتظاهرين بـ"إصلاح النظام السياسي بالبلاد، ووقف عمليات الفساد وإحالة المتورطين فيها إلى القضاء، وفصل الدين عن السلطة، وتوفير الخدمات، وشمول الأحزاب وأعضاء البرلمان والقادة العراقيين بسياسة التقشف التي فرضتها الحكومة على المواطنين وطالت قطاعات مهمة وحساسة".

لكن وقع التظاهرات كان ثقيلاً على الأحزاب الدينية المشاركة في السلطة، فأخذ قادتها يتهمون (العلمانيين) بالوقوف وراء التظاهرات "لإسقاط الإسلاميين وتجربتهم الإصلاحية"، ما يعكس مدى الورطة التي يعيش فيها الساسة العراقييون، الذين لم يكونوا يتصورون أبداً أن يخرج عليهم مواطنوهم الشيعة.

وإذا كان البعض يرى أن ثورة عراقية جديدة ضد الظلم والفساد والتدخل الإيراني في العراق قد انطلقت، وأن السياسيين المدعومين من طهران قد انتهى عهدهم، فإن الأدق هو توصيفها، فهذه المظاهرات خرجت بالأساس للاحتجاج على الفساد وسوء الخدمات والإسراف، ما دفع المرجعية الشيعية العليا الى مساندتها وتبنت مطالبها، ولولا ذلك لتعاملت الحكومة معهم بالحديد والنار، كما تعاملت من قبل مع انتفاضة السُنّة عام 2013م.

لكن هذه بعض التظاهرت خرجت عن إطارها فرفعت الشعار (دولة مدنية لا دينية)، بل ان بعض هتافات المتظاهرين هاجمت ايران علناً، ولولا ووقوف مرجعية السيد السيستاني مع المتظاهرين لم يخرج المواطنون الشيعة للتظاهر، برغم يقينهم أن أهل الحكم في العراق فاسدون لايدينون بالولاء للعراق وإنما ولاؤهم لإيران وأميركا ولمصالحهم الخاصة ولفسادهم.

وكشفت التظاهرات، برغم تناقص اعدادها والمراهنة على عدم استمرارها، عن فضائح واقع السلطة الحاكمة في العراق، اذ اصبح واضحاً ان الصراع السياسي تحول من صراع (شيعي – سُنيّ)، إلى صراع داخل الأحزاب الشيعية، وبينها وبين جماهيرها، ما أدى الى (طلاق بائن) بين العراقيين والأحزاب الدينية التي غرقت بالفساد العام والنهب المنظم، وحوّلت العراقيين إلى شعب جائع مشرّد في الداخل والخارج، وأفرغت البلد من العلماء وأصحاب الكفاءات لتخلو الساحة للجهلة والاميين، فضلاً عن تسليمها ثلث العراق لداعش.&

وظهر فشل الأداء السياسي لحكم الأحزاب الاسلامية الشيعية في عدم استطاعتها تقديم مشروع سياسي عراقي للتغيير والبناء يصبح بديلا مقبولا عن نظام صدام حسين، والشعار الوحيد الذي قدمته تلك الأحزاب الثأر لـ (مظلومية الشيعة)، ولهذا وقعت في مأزق الفشل والعزلة عن الشعب منذ اللحظة التي تسلمت فيها السلطة من الاحتلال الأميركي، ورأت في العرب السُنّة والقوى الليبرالية خطراً على مصالحها. لكن انتفاضة العرب الشيعة قبل غيرهم، مزقت هالة (المقدس الديني)، ولم تعد قادرة على تمرير سياسات الهيمنة باسم المذهب والمظلومية.&

وبالرغم من ان احزاب الاسلام السياسي الشيعي تؤمن بنظرية (ولاية الفقيه)، الا انهم جميعاً يدركون جيداً ان الولايات المتحدة لن تسمح لهم بذلك، فكانت (مظلومية الشيعة)، طريقهم للهيمنة على مقاليد الامور في العراق الجديد.&

واذا كان الاقرار بولاية الفقيه العامة يكرس التبعية لايران، فإن فكرة المظلومية تعني تقسيم العراق وتفتيته، ويتناغم مع المشاريع الاميركية لاسيما مشروع نائب الرئيس جو بايدن، الامر الذي يحقق لايران الكثير من طموحاتها وتطلعاتها السياسية في رؤية عراق مقسم ودول مجاورة ضعيفة، وستكون حصة ايران هي الاكبر من النتائج المترتبة على فكرة التقسيم هذه، وهو الجنوب الغني من العراق، الذي سيسقط وحدها بدون جهد في السلة الايرانية.&

الا أن الحديث ظل غامضاً حول هذه المظلومية، ويفسر بعض مؤيدي الاحزاب الدينية هذه المظلومية، بأن مصدرها كان اتفاق تم بين المندوب السامي البريطاني في العراق في بداية العشرينات، السير بيرسي كوكس، وعبد الرحمن النقيب، احد علماء السُنّة، على أساس تسليم الحكم في العراق للسُنّة شرط ابعاد الشيعة، وحرمانهم من حقوقهم، انتقاماً منهم بسبب دورهم الفعال في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، ومساهمتهم قبل ذلك في حركة الجهاد التي واجهت القوات البريطانية في البصرة عام 1914.

لكن الفكرة، مظلومية الشيعة، وبقليل من التدقيق لاتصمد امام النقاش الموضوعي، فالسير كوكس كان قد زار المرجع الشيعي الاعلى السيد كاظم اليزدي قبل أن يزور النقيب، الا أن اليزدي رفض الفكرة. ما يعني أن كوكس لم يكن محكوماً فعلاً بكره الشيعة أو العداء لهم.&

وبرأيي فأن شعار مظلومية الشيعة قد يحقق ألف غرض وغرض، الا الحفاظ على حقوق الطائفة الشيعية، الذين لايعنون لاصحاب مشروع مظلومية الشيعة أكثر من أدوات أو حطب لتحقيق مصالحهم، وستُختزل مظلومية الشيعة بمراسيم العزاء والاحتفالات الدينية التي تمثل في الحقيقة احد المصادر المالية لبناء إمبراطوريات رأسمالية على حساب دماء الإمام الحسين وثورته الإصلاحية الكبرى.&

واليوم تواجه أحزاب الاسلام السياسي مصير إزاحتها عن المشهد السياسي تحت احتمالين، إما على يد التيار الشعبي المدني الذي صنعته التظاهرات الحالية، إذا لم تتعرض إلى القمع المدبّر، أو عبر القوى الشيعية داخل البيت الشيعي، وهي قوى الحشد الشعبي المتربصة للقفز على السلطة السياسية على وقع الحرب مع الارهاب، وتحت مبررات إنهم أقدر من غيرهم من الشيعة على حكم البلاد لأنهم قدموا ويقدمون تضحيات الدماء ضد داعش.

من هنا يتضح إن عملية تجديد العملية السياسية بواسطة قادة أحزاب السلطة التقليديين وبرلمانهم وصلت إلى طريق مسدود بعدما انتهى إليه البلد من خراب كبير بسبب إمبراطورية الفساد المالي وما يُتوقع عن إعلان إفلاس العراق قريبا، وما يجري من عمليات تسقيط خطيرة عبر وسائل الإعلام لفرقاء العملية السياسية أنفسهم، فيما يتشبث حيدر العبادي بحزبه متجاهلا الحل الإنقاذي الداعي إلى خروجه إلى الفضاء الوطني.

وليست احزاب الاسلام السياسي السُنيّة بعيدة عما يحدث في العراق، فهي الاخرى تعتمد في بقائها على (التمذهب)، ولهذا ساند الحزب الإسلامي (السُنيّ) سلطة الحكم (الشيعي) في العراق انطلاقاً من مقاربة فكرية وسياسية مفادها: إن هناك تكاملا ورؤية مشتركين في سلطة الإسلام السياسي ما بين حزب الدعوة والحزب الإسلامي، فضلاً عن أن جميع مشاريع ممثلي العرب السُنّة تدور في حلقة مفرغة لكونها لا تتشبث بالمشروع العراقي العابر للطائفية، فهي حائرة ما بين مشروع إقليم سُنيّ قادته كانوا جزءا من العملية السياسية ولا يقدم حلا حقيقيا، بل سيتحول مثل هذا الكيان الهزيل إلى ساحة للصراعات الشخصية داخل ذات الإقليم، أو ما يتردد عن إقليم كونفدرالي بين السُنّة والأكراد بقيادة مسعود برزاني، وكأن العراق اختصر فقط بمن هم داخل العملية السياسية.&

&

*كاتبة عراقية