مواجهة الحكم الشمولي واضحة، طريقها معروفة، وعدوها ليس ملتبسا. معارضته لها طعم مختلف، طعم الحياة وان أدت الى الموت. في الحكم الديمقراطي، المعارضة تعني نقد السلطة، وأمل تغيير الحاكمين، حتى وان كانت الخيارات تدور بين حزبين او ثلاثة. فهناك برامج انتخابية حقيقية، وصناديق الاقتراع تُقرّع الفاشلين. في الحالة الثيوقراطية، يمكن أن يصبح التنوير والنقد خطا موجها ضد نظام طوباوي، يعيد انتاج الخرافة ويجرد الانسان من أي شعور بالجدوى، لأن اسم الله يستخدم في النظام...

في العراق، حين كان صدام في الحكم، أخفت أسر الشيوعين والاسلاميين وسواهما من الناقمين، ممن اعدم ابناؤهم، فخرها، وان اعلنت حزنها النبيل. هناك أمل بأن الدكتاتور سيزاح يوما، سنعمل من أجل ان يزاح، الطموح متوفر، وان كان محفوفا بالكثير من المخاوف واحيانا القنوط. ربما بلغت الامور اليأس في مرحلة ما، بعد أن شعر الكثيرون بأن الدكتاتور سيوّرث الحكم لنسله، الا أن المواجهة تظل مفتوحة وعادلة. حتى تبرير التدخل الامريكي لدى شرائح مجتمعية ونخبوية واسعة، جرى دون الكثير من التردد، لأن المقارنة بين الموت والاحتلال بالتأكيد في ظاهرها ستميل الى الثاني.

الان ماذا؟

لا شكل للنظام، بل لا وجود لنظام. ألوان متناشزة، لا تحقق حتى لوحة سوريالية موغلة بالجنون وعدم الوضوح. الان وبعد 12 سنة، المفردة الاصح دلالة هي "عملية سياسية". لأن الموجود عملية وليس نظاماً. والدستور عاجز ما دامت هناك دساتير شفاهية بديلة ذات تأثير ابلغ من النص المدوّن.

القوى المدنية، او مقارباتها تتحاشى أن تسمي نفسها معارضة، بل تحرص على أن تقدم وجودها كجزء من العملية السياسية، وهي عملية سياسية لا تعتمد المدوّن بل اتفاقاتها الشفاهية. أما المعارضة فهي ارهابية طائفية، تحكمها وجودات مشوهة وقاتلة ومجرمة. القوى المجتمعية لا تزال تدور بين مرجعيات دينية تبحث عن تكريس سطوتها، وعشائر تمارس على المجتمع كل انماط التخلف والتجهيل، ومنظمات مدنية لا حضور لها الا في قضايا الربح المالي. والمثقف محدود القوة، ينفعل انفعال شاعر. القاتل في العملية السياسية مجهول، والمقتول إما ضائع الدم او مجرم يستعرض اجرامه بطائفية موغلة بالكراهية او بالصراع من اجل النفوذ والتسلط. كثيرون هم الضحايا الذين ضاعت دماؤهم بين قبائل الحكم، وكثيرون هم القتلى الذين ماتوا وهم قتلة.

الثورة مستحيلة، لأن شعبا مفككا، ومكونات تخشى بعضها البعض الاخر، بثقة مفقودة لأسباب حقيقية وغير حقيقية، في ظل وحش متربص، وجيران ينتظرون اي فرصة للانقضاض على البلاد، لا يمكن ان يصنع تغييرا ثوريا. من يتظاهر سيقال له اذهب الى صناديق اقتراع، ليجد الصناديق محاطة بالفتاوى والمخاوف والارتياب وفقدان الثقة بكل جديد. والجديد هو قديم.

هنا يصبح تحديد اتجاهات العملية السياسية ورسم ملامحها لتتحول الى نظام ودولة، احدى المعارك الرئيسية القادمة او التي يجب ان تخاض. تحديد لا ترضاه الجماعات الموجودة في الحكم والمعارضة، كونه يتعارض مع رغبتها بالاستمرار على وضع الفوضى، وايضا على التجييش... فلا يمكن لقيادة اقليم كردستان ان تحقق النفوذ اذا تحقق الاستقرار على الفدرالية، لأن الصيغة التي الموجودة على الارض كونفدرالية. والقيادات السنية تدرك جيداً ان استقرار النظام على مفهوم معين، يعني بالضرورة انهيار طموحها بمزيد من استعادة بعض النفوذ بمعزل عن الاستحقاقات على الارض. أما القيادات الشيعية فهي لا تمتلك تصورا عن شكل النظام سوى تصورها الهلامي عن الدولة الدينية الذي امتزج مؤخرا بصناديق اقتراع مفرغة من الديمقراطية...

شكل النظام والدولة نظريا ترسمه المفردات الاربع الواردة في الدستور (جمهوري ـ ديمقراطي ـ نيابي ـ فدرالي). الا أنها مجرد كلمات بلا تفاعل، لغياب قوة موثوقة ضامنة لها. القضاء واقع تحت الصراعات، والجيش مرهق بالمحاصصة والفساد ومجلس النواب خاضع لعدد محدود من الزعماء، أغلبهم ليس عضوا فيه. لذا، يفترض بالنخب المثقفة وغيرها، ان تستعيد نشاط هذه الكلمات الاربع، وهي معنية باستكشاف طريق جديدة لمواجهة هذا النظام المبهم الشكل، من أجل رسم ملامحه. شريطة ان لا تكرر ما فعلته في زمن المالكي عندما اصطفت معه او مع القيادات السياسة المخاصمة له. فهي بذلك تخضع مجدداً لمن أفرغ شكل النظام من محتواه.
&