في مقال سابق بعنوان "العرب من الإستعمار إلى الإستعباد إلى الفوضى الخلاقة" نشر بتاريخ 20/12/2014م، قلنا أن التحرر من الإستعمار في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي لم ينجز عن طريق ثورات شعبية (بإستثناء الجزائر وإلى حد ما تونس)، بل عن طريق إنقلابات عسكرية نفذها كبار الضباط في الجيوش الوطنية ضد أنظمة الحكم التي نصبتها الدول المستعمرة. وللعلم، أن الثورات الشعبية الحقيقية التي قامت ضد المستعمر هي: ثورة الشهيد "عمر المختار" عام 1911م في ليبيا، والثورة المصرية بقيادة الزعيم "سعد زغلول" عام 1919م، وثورة العشرين في العراق التي قادها رجال الدين في النجف بالتعاون مع زعماء العشائر العراقية، والثورة السورية الكبرى بقيادة "سلطان باشا الأطرش عام 1925م، إضافة إلى الثورة الجزائرية التي يعرفها الجميع.&

بعد دحر القوى الإستعمارية البريطانية والفرنسية والإيطالية من العالم العربي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، تربع على كراسي السلطة رجال العسكر - قادة الإنقلابات العسكرية – الذين حكموا بلدناهم بطريقة الحزب الواحد، والجريدة الواحدة، وانشغلوا بأولوية المحافظة على البقاء في السلطة، بدلا من تطوير العمل السياسي الديمقراطي القائم على إحترام حرية الفرد الفكرية والدينية، وتعدد الأحزاب السياسية، والتبادل السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروات، وتكافؤ الفرص. أنظمة الحكم هذه بقيت لسنوات طويلة تحكم بلدانها بسطوتها الأمنية (التسلط والقمع)، واللعب على أوتار القبلية والعشائرية والمذهبية والإثنية. لهذا جاءت إنتفاضات الربيع العربي بداية العام 2011م كرد فعل على تكلس تلك الأنظمة التي لم تنجز شيئا يذكر خلال 60 عاما من الإستقلال، خصوصا إذا ما قورنت بأنظمة حكم أخرى سواء في جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية وحتى في بعض الدول الإفريقية، على كل الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية.&
&
إنتفاضات الربيع العربي في عدد من الدول العربية قامت من أجل إزالة الظلم والإستبداد والقهر، وأملا في تحقيق ما يحلم به المواطن العربي من حرية وديمقراطية وعدالة إجتماعية، بعد سنين عجاف أصابه فيها من الفقر والإحباط واليأس من صلاح الأحوال ما لا يحتمله، وتفاءل الشباب العربي – وهم من أشعل هذه الإنتفاضات – بمستقبل جديد يضمن المشاركة الحقيقية في صنع مستقبل أوطانهم. ومع الأيام وتصاعد الأحداث وكثرة الخلافات والإضطرابات السياسية والأمنية وزيادة وتيرة العنف والقتل أسقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد خدعوا وأن أحلامهم قد أختطفت وتوارت خلف وعود كاذبة وتكتلات ذات مصالح حزبية ضيقة عجزت عن الوصول إلى رؤية مستقبلية مشتركة يمكن التوافق عليها والتطلع إلى تحقيقها. (المصدر: مجلة الدوحة، العدد 87، يناير 2015م). ليس هذا فقط، بل إندلعت الحروب الأهلية في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن، ونشأت دولة الخلافة الإسلامية الداعشية على بعض الأراضي السورية والعراقية.
&
الخبير الإجتماعي الدكتور محمد أحمد الزعبي، يرى أن للتغيير إسلوبان هما: الإصلاح والثورة، فالإصلاح هو تحسين النظام السياسي والإجتماعي القائم من دون المساس بجذوره أو أصوله، اي انه تعديل غير جذري في شكل الحكم أو العلاقات الإجتماعية. أما الثورة فهي التغيير الشامل والكامل الذي يحدث عندما تصبح القوى القائمة على إختلاف أنماطها واشكالها غير قادرة على مواجهة متطلبات المجتمع القائم. ولكل من الإسلوبين محاذيره. فالاصلاح يتصف بالبطء في خطواته، ومرور وقت طويل نسبيا قبل أن تظهر نتائجه. والثورة تتصف بالمغامرة وربما بالشطط أيضا، فهي عندما تدفع المجتمع ليتقدم قفزا وحرقا للمراحل فإنما تدفعه إلى اتخاذ خطوات قد لا تكون سليمة، وقد لا يستطيع العودة بعدها إلى المراحل السابقة – التي تكون قد إحترقت – إلا بعد تضحيات كثيرة.
&
الشعوب العربية لا زالت تعيش حالة من الغليان، حتى في الدول التي لم تشهد إنتفاضات الربيع العربي، ولا يمكن أن نتوهم أن السكون الحالي يعني الإستقرار، الأمر ليس كذلك، فالسكون حالة مؤقتة من الجمود تؤدي إلى ترهل النظم الحاكمة وفسادها. بينما الإستقرار حالة مستديمة تتميز بتوازن قوى المجتمع وقدرة الجماهير على التعبير عن آرائها ومعتقداتها.
&
إذا كان للتغيير أسلوبان (لا ثالث لهما) كما يرى الدكتور الزعبي، وأن الشعوب العربية جربت الثورات والإنقلابات العسكرية التي تتصف بالمغامرة في فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، وأن النتائج كانت كارثية بسبب إنحراف كل الثورات عن أهدافها الوطنية والقومية. كما أن إنتفاضات الربيع العربي لم تحقق أهدافها للأسباب التي ذكرناها، بل ما نتج عنها هو أسوأ من أسوأ التوقعات، أصبح واضحا أن إعتماد أسلوب الإصلاح السلمي هو الطريق الصحيح والأسلم لإحداث الإصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية المطلوبة في العالم العربي. وهنا يأتي دور أنظمة الحكم العربية الحالية الماسكة بزمام الأمور في تحمل المسئولية التاريخية، والعمل على العبور بشعوبها إلى بر الأمان عبر القراءة الصحيحة لمجريات الأمور في المنطقة والعالم، والتعامل والتفاعل الإيجابي والبناء مع المطالب الشعبية.
&
لم تعد الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية تتحمل أو تقبل مبدأ سيطرة الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة، أو الحاكم الفرد، على مقدرات وثروات الشعوب، وأن الشعوب العربية دفعت الثمن الفادح في كل المراحل سواء كان للإستعمار الخارجي أو الإستبداد الداخلي. لقد بات على أنظمة الحكم العربية أن تتخلص من شرعيتها المستمدة من سطوة القوة والقمع والإرث التاريخي، وأن تستبدلها بشرعية دستورية أساسها التوافق والقبول بين الحاكم والمحكوم، والتدوال السلمي للسلطة، من أجل أن تنعم الدول العربية بالأمن والإستقرار والإزدهار كباقي دول العالم المتحضر.
&