نجحت معظم الأنظمة الدكتاتورية التي هبت شعوبها للثورة في الربيع العربي بتحقيق أهدافها سواء ببقائها في السلطة أو بتدمير بلدانها، من خلال إستقدام القوى الإرهابية المتطرفة الى ساحة المواجهة مع شعوبها..

سقطت أنظمة دكتاتورية عديدة بفعل تلك الثورات الشعبية، لكن جاء من هو أفظع وأبشع من الدكتاتور، وهذه حصيلة مفزعة لثورات الربيع العربي. وفي جهة مقابلة إستطاعت أنظمة أخرى أن تقاوم وتصمد أمام رياح التغيير وتكبت صيحة الحرية للشعوب بفضل ممارسات بعض القوى الإرهابية التي تمكنت من التسلل لصفوف الثورة مثلما حدث ويحدث اليوم بسوريا..

لقد قال صدام حسين في أوج قوته وجبروته بالثمانينات" من يريد أن يحكم العراق بعدي، عليه أن يستلم وطنا بلا شعب". وتحققت هذه النبوءة الى حد ما حيث تحول العراق الى ما نراه اليوم من الدمار والخراب رغم سقوط نظامه، فمازال هذا البلد لم يستعد عافيته على الرغم من كل التضحيات الجسام التي قدمها شعبه،وأصبح العراق دولة مفتتة تتنازعها الأهواء الطائفية والدينية المتطرفة،وتحولت ساحة حرب حقيقية لتصيفة حسابات المتطرفين أفرادا ومنظمات ودول إقليمية.

كانت الأجواء قبل أيام الربيع العربي مهيأة تماما لحدوث الإنتفاضات والثورات الشعبية، حيث أن معظم الدول التي حكمتها الدكتاتورية قد ملت شعوبها أنظمة حكمها، ومع إنفتاح المجتمعات على التقدم التكنولوجي وثورة الفضائيات فإن العيون تفتحت وأدركت الشعوب المقهورة كم هي محرومة من حرياتها ومن العيش بأمان وكرامة، لذلك سارعت بعض الشعوب بالإنتفاض والثورة ضد الدكتاتوريات، وهبت رياح التغيير بعدد من الدول العربية، وكادت أن تشمل تلك الثورات جميع الدول التي تحكمها الدكتاتوريات..

في هذه المرحلة الحرجة التي شكلت إنعطاتفة تاريخية لصحوة شعبية رافضة للدكتاتورية والمتطلعة الى مستقبل أفضل، جاءت تنظيمات إرهابية متطرفة لتتسلم زمام الأمور في العديد من الدول التي نجحت ثوراتها مثل ليبيا واليمن ومصر، ولكن مع مرور الأيام ظهر بأن تلك المنظمات التي جاءت تحت إسم الإسلام كانت أكثر سوءا ووحشية من الدكتاتوريات التي حكمت البلدان العربية لعقود طويلة، وداعش هو النموذج الأمثل للتعبير عن مدى وحشية تلك المنظمات..

لو أن داعش كان بالفعل يمثل الإسلام ويسعى الى تحقيق العدل الإلهي وتطبيق مقاصد الشريعة لما إقترف كل تلك الجرائم البشعة التي نقلت مشاهدها للعالم وهي تدلل على وحشية هذا التنظيم الممثل للإسلام، ولكان يلقى بالفعل دعما شعبيا وحاضنة مؤمنة له وسط الشعوب التواقة للحرية والعدالة، لكن ممارسات هذا التنظيم جعل وجوده داخل المجتمعات الإسلامية مرفوضا ومكروها، لأنها خرجت عن تعاليم الإسلام ومبادئه الأساسية الداعية لحفظ الأرواح والأعراض والحكم الرشيد.

في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي ثار الشعب الكردي ضد نظام البعث في العراق، ولاذ الآلاف من الشباب الكرد بجبال كردستان ليعلنوها ثورة ضد نظام الحكم البعثي الغاشم، وفي العادة فإن في الثورات كما في السياسة فإن الغاية تبرر الوسيلة، ولكن رغم أن النظام&الفاشي في العراق إرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية ومارس سياسات الإبادة الجماعية ضد الشعب الكردي،لكن قوات البيشمركة لم تقم بأي عمل إرهابي طوال سنوات ثورته.. فلم تلجأ الأحزاب الكردية الثائرة ضد النظام البعثي الى تفخيخ السيارات أو زرع العبوات الناسفة بشوارع المدن الآهلة بالسكان بما فيها العاصمة العراقية، ولم تقتل أسيرا من الضباط والجنود العراقيين، بل أنه أثناء الإنتفاضة الشعبية في آذار 1991 وقع عشرات الآلاف من الجنود والضباط بأسر قوات البشمركة التي آوتهم في المساجد والمدارس وأطعمتهم لحين إستتباب الأمور ثم أوصلتهم الى حدود النظام بمناطق التماس بسلام وأمان فعادوا الى أهليهم وذويهم سالمين مكرمين.

وفي أيام الثورة كانت مفارز البيشمركة تصادف خبيرا أو مهندسا أو عاملا أجنبيا يعمل في مشروع إسسكاني أو عمراني بالمناطق الكردية التي تتجول فيها فلتقي القبض عليهم وتسوقهم الى مقر القيادة بجبال كردستان، وهناك يلقى هؤلاء معاملة إنسانية في غاية الرقي، وتخدمهم القوات الكردية وتقدم لهم كل التسهيلات اللازمة للإتصال بعوائلهم،وتستغل قيادات البيشمركة وجود هؤلاء الأجانب بمعيتها لتشرح لهم عدالة القضية الكردية وحق شعبها بالعيش والحرية، وتحاول إقناعهم بأنه عندما يعودون الى ديارهم وأوطانهم أن يذكروا البيشمركة ونضالهم العادل من أجل الحرية، وهذا ما حصل، فقد عاد الكثيرون منهم الى بلدانهم وتحدثوا بشكل إيجابي عن الثورة الكردية وما لاقوه من معاملة إنسانية من الثوار بالجبال، وكان ذلك أفضل دعاية في ذلك الوقت حين كانت الأجواء مغلقة ولم تكن هناك وسائل إتصال أو إعلام لإيصال صوت الكرد وقضيتهم العادلة الى المحافل الدولية.

فهل فعل داعش ذلك؟

إن الممارسات اليومية لتنظيم داعش من القتل والحرق وحز الرؤوس والتمثيل بالجثث، تؤكد مشاهدها بأن هؤلاء أبعد ما يكونون عن تعاليم الدين الإسلامي الصحيح،وتبرهن تلك الممارسات اللاإنسانية أنهم مجرد مجموعة من عتاة المجرمين المتعطشين للدماء، وأنهم يقتلون من أجل لاشيء ، مجرد إشباع رغبة شيطانية برؤية الدماء، فهم لا قضية لهم البتة، لأنه لو كانت لديهم قضية لعملوا على نصرتها بممارسات تقنع الطرف الآخر بعدالتها.

إن معظم الشعوب التي يتواجد هذا التنظيم وسطها مازالت تعاني من جور وظلم حكامها وتحرم من حقوقها الإنسانية وتنتهك كرامتها كل يوم، ولو وجدت هذه الشعوب من أي تنظيم إسلامي مشروعا يرفع عنها هذا الظلم والجور لإفترشت الأرض حريرا أمام جحافل القادمين ولنثرت الورود على رؤوس قادتها لكي تخلصها من الدكتاتوريات الظالمة وتحقق لها العدل والمساواة وتستعيد كرامتها وحريتها، ولكن هل يكون داعش هو البديل الأفضل عن الأنظمة الدكتاتورية؟ لا أعتقد ذلك.

كان من المفروض على داعش الذي يدعي الإسلام أن يظهر الجانب الإنساني لهذا الدين، أن يدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة،ماذا لو أكرم الصحفيين وعمال الإغاثة الأجانب ثم أطلق سراحهم، ألم يكن صدى ذلك أفضل من إثارة العالم بتلك الصور البشعة للذبح والحرق؟..ألم يكن أفضل لتنظيم داعش أن يعفو عن الطيار الأردني " والعفو عند المقدرة" ويعيده الى وطنه بسلام وأمان ليكسب بذلك قلوب الأردنيين بدلا من إستعدائهم ضده؟. ماذا إٍستفاد داعش من قتل ذلك الطيار وعدد لا يتجاوز أصابع اليدين من الأجانب، هل إستطاع بذلك أن يطيح بالحكومة الأردنية، أو وقف الحرب الأميركية ضده؟.

هناك الكثيرون ممن يريدون الخلاص من الحكام الدكتاتوريين، ولكن إذا كان داعش بممارساته هذه هو البديل، فإن تلك الشعوب ستتردد ألف مرة قبل أن تسمح لهؤلاء القتلة الهمج من دخول أوطانها.

لقد قلت في مقال سابق بأن تنظيم القاعدة بدلا من أن تصرف ملايين الدولارات لتفجير برجي التجارة بنيويورك، كان من الواجب أن تصرف تلك الأموال في طبع كتب إسلامية تروج للسلام والمحبة، وبذلك كان سيأسر قلوب الشعوب والأمم، مثلما كسب تجار مسلمون قلوب شعوب جنوب شرقي آسيا الذين يفوق عددهم اليوم المسلمين العرب قاطبة؟.

إذن هما وجهان وإن إختلفا لدين واحد يتستر به داعش، دين الإسلام المحمدي الذي يدعو بقرآنه الى السلام والمحبة والى إطعام الأسير وتحريم قتل الأنفس إلا بالحق، والوجه الآخر هو إسلام الفقهاء وكتبهم وتراثهم الدموي الذي يقضي بتكفير المجتمع وقتل البريء بجريرة المذنب، وشتان بين الإسلامين المحمدي ودعاة الشر والقتل والحرق والتمثيل بالجثث.

&

[email protected]