عنوان هذه المقالة هو عنوان الكتاب الذي كتبه "الأمير شكيب أرسلان" في شهر نوفمبر عام 1930م. وكان هذا الكتاب بمثابة جواب على خطاب أرسله له "الشيخ محمد بسيوني عمران"، إمام مهراجا، جزيرة سمبس برنيو (جاوة)، عن طريق أستاذه "الشيخ محمد رشيد رضا". في هذا الخطاب، طلب "الشيخ محمد" من "الأمير" أن يتفضل عليه بالإجابة على السؤالين التاليين:

1. ما أسباب ما صار إليه المسلمون من الضعف والإنحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معا؟

2. ما الأسباب التي إرتقى بها الأوروبيون والأميركانيون واليابانيون إرتقاء هائلا؟

في هذه المقالة، سأكتفي بتلخيص جواب "الأمير" على السؤال الأول لأهميته، وحتى لا أطيل على القراء. أما جوابه على السؤال الثاني، فأعتقد ان اغلب العرب والمسلمين يعرفون ذلك، وربما أتطرق له في مناسبة أخرى في المستقبل.&

في جوابه على السؤال الأول، ذكر "الأمير" الأسباب التالية لضعف وإنحطاط المسلمون في أمور دنياهم ودينهم:

الجهل: الذي يجعل فيهم من لا يميز بين الخمر والخل، فيتقبل السفسطة قضية مسلمة، ولا يعرف أن يرد عليها.

العلم الناقص: الذي هو أشد خطرا من الجهل البسيط، لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدا عالما أطاعه ولم يتفلسف عليه. فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري. وكما قيل: إبتلاؤكم بمجنون خير من إبتلاؤكم بنصف مجنون. أقول: إبتلاؤكم بجاهل خير من إبتلاؤكم بشبه عالم.

فساد الأخلاق: بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن الكريم، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة، وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح. والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف. ولله در "أحمد شوقي" إذ قال:

"وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"

فساد أخلاق أمراء المسلمين: من أكبر عوامل تقهقر المسلمين فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء – إلا من رحم – أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة بطشوا به عبرة لغيره.

العلماء المتزلفون: وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء المتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة. ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أود الأمراء. وكانوا في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون خطوات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة من بعده إلى الصواب. وهكذا تستقيم الأمور لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين بالزهد، متحلين بالورع، متخلين عن حظوظ الدنيا، لا يهمهم أغضب الملك الظالم الجبار أم رضي، فكان الخلفاء والملوك يرهبونهم ويخشون مخالفتهم، لما يعلمون من إنقياد العامة لهم، وإعتقاد الأمة إمامتهم. إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعد هؤلاء خلف إتخذوا العلم مهنة للعيش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من الأمراء أشنع موبقاتهم، وأباحوا لهم – بإسم الدين – خرق حدود الدين. هذا والعامة المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلو مناصبهم، يظنون فتياهم صحيحة، وآرائهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتنمر، وكل هذا إثمه في رقاب العلماء.

الجبن والهلع: ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة واحتقار الموت، يقوم واحدهم للعشرة وربما للمئة من غيرهم. فالآن أصبحوا – إلا بعض قبائل منهم – يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام في قلب واحد.&

الجامدين: والجامد هو سبب الفقر الذي أبتلي به المسلمون، لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والحال أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وإن هذه مزية له على سائر الأديان الأخرى. فلا حصر كسب الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه كما في ديانات أهل الهند والصين، ولا زهده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوروبا الحاضرة. والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار، فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث ابناءه الفقر الذي هم فيه، وقص أجنحتهم. فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها، فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: إذهبوا توا إلى الأخرة فليس لكم نصيب مني.

ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم الدينية والمحاضرات الأخروية، جعلنا من أنفسنا في مركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعلون في الأرض ونحن ننحط في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا فضلا عن أن يملكوا علينا دنيانا، ومن ليست له دنيا فليس له دين. وليس هذا هو الذي يريده الله بنا، وهو الذي قال: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض". وقال: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة".&

الجاحدين: أما الجاحد فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين ويخرجهم عن جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدا فيذوب فيه ويفقد هويته. وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين، وأنه هو يريد أن يبرأ منهم لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس، الوضيع النفس، أو عند الذي يشعر أنه في وسط قومه دنيء الأصل، فيسعى هو في إنكار أصل أمته بأسرها، لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ليس له نصيب من تلك الأصالة. وهو مخالف لسنن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمة ميلا طبيعيا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها من: لغة وعقيدة وعادات وطعام وشراب وسكن، وغير ذلك إلا ما ثبت ضرره.

هذا ملخص لما جاء في رأي "الأمير" عن أسباب تأخر المسلمون في عصره. وأنا أضيف: بعد حوالي 85 عاما من نشر هذا الكتاب، لا زالت الأوضاع نفسها قائمة بل إزدادت سوءا. فتقارير التنمية الإنسانية العربية التي تصدر سنويا تؤكد بالحقائق والأرقام أن اغلب الشعوب العربية البالغ تعدداها حوالي 365 مليون شخص تعيش بلا أمن صحي أو اقتصادي أو اجتماعي أو إنساني. وتشير الى أن عدد الفقراء الذين يعيشون على أقل من 3 دولارات في اليوم يصل الى أكثر من 65 مليون شخص من أصل حوالي 165 مليون شخص فقير، أي زهاء 40%. أما معدلات البطالة فهي الأعلى في العالم حيث أن معدل البطالة في اوساط الشباب يقارب 25% من القوى العاملة من الذكور، بينما يصل المعدل بالنسبة إلى الشابات إلى حوالي 31% من القوى العاملة من الإناث. أما بالنسبة الى الأمية فإنها لا تزال مرتفعة في العالم العربي حيث يتجاوز عدد الأميين ألـ 100 مليون شخص، وتشير الإحصائيات الى أن أكثر من 75 مليونا من إجمالي الأميين العرب تترواح أعمارهم ما بين 15 و 45 عاما، ومخرجات التعليم هي الأسوأ في العالم، حيث أن أغلب خريجي الجامعات العربية لا يصلحون إلا موظفين وكتبة. ولا أعتقد أن الأوضاع في الدول الإسلامية - غير العربية - تختلف كثيرا، اللهم إلا في ماليزيا وأندونيسيا وتركيا.

&أما أنصاف المتعلمين من رجال الدين ومن غير رجال الدين، فهم – للأسف الشديد – من يقودون أغلب المجتمعات الإسلامية وخصوصا العربية منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي. أما فساد الأخلاق فحدث ولا حرج ، فالكذب والغش والرشوة والسطو على المال العام وعدم إحترام القوانين والمحاباة في الوظائف العامة، كلها أدواء مستوطنة في العالمين العربي والإسلامي. والحكام زادوا بطشا بمعارضيهم، وبعضهم جر بلاده إلى الحرب الأهلية، أما ثرواتهم الشخصية فلا يعلم قدرها إلا الله (جلت قدرته) والبنوك الأجنبية المكدسة فيها.

&والعلماء المتزلفون زاد عددهم، وعلت أصواتهم بفضل القنوات الفضائية التي تصدح - ليلا ونهارا - بخطبهم الجوفاء المحرضة على الطائفية البغيضة وكره الآخر المختلف معهم في الدين والمعتقد، ومواعظهم الموجهة إلى الفقراء والمساكين تحضهم على الزهد في الدنيا، بينما هم يعيشون حياة مرفهة وثرواتهم الشخصية تتراكم بفضل هذه الفضائيات، وبفضل عضويتهم في اللجان الشرعية للبنوك والشركات الإستثمارية الإسلامية.
&
لو كان "الأمير" رحمه الله حيا، لرأى أن أمريكا والدول الغربية واليابان والصين والهند، لم يكتفوا بما حصلوا عليه من خيرات الأرض، بل ذهبوا يجوبون الكواكب الأخرى بهدف البحث عن ما في باطنها، وأرسلوا أقمارهم الإصطناعية إلى الفضاء لرصد الرياح والأمطار والتحذير من احتمال حدوث الكوارث الطبيعية، وليتجسسوا على بلداننا، ونحن نغط في سبات عميق، تنتظر الآخرة.

&