الطائفية، ليست صنيعة نظام سياسي بعينه، وإنما هي ظاهرة متأصلة في المجتمع السوري والمجتمعات المشرقية التقليدية عموماً. ترتبط بالموروث التاريخي المتخلف( الاجتماعي والثقافي والديني) لشعوب هذه المجتمعات. بيد أن مسؤولية النظام والسلطة الحاكمة تُحدد بمدى نجاحهما أو إخفاقهما في تخليص المجتمع من هذا الوباء الاجتماعي الخطير" الطائفية" والارتقاء بالمجتمع الى ( مجتمع سياسي/مدني)، بعيداً عن "الطائفية السياسية".&

المجتمع السوري، لم يكن بمنأى عن الطائفية وآثارها السلبية على التماسك المجتمعي وعلى نضوج الوعي الوطني لدى السوريين. فالأحزاب السورية، باعتمادها في بناء قاعدتها التنظيمية وكسب أنصارها على القنوات الاجتماعية التقليدية، ساهمت في "تسيس الطوائف والاثنيات والقبائل" كذلك في تعزيز الولاءات البدائية (الما قبل الدولة) لدى السوريين. هذه الحالة السلبية تنسحب على جميع الأحزاب السورية( القديمة والجديدة، الصغيرة والكبيرة)، وإن بنسب متفاوتة، بما فيها الأحزاب ذات الأيدولوجيات والعقائد القومية والأممية ، كـ(حزب البعث العربي الاشتراكي) و(الحزب الشيوعي السوري) و(الحزب السوري القومي الاجتماعي)‬‎.كانت الأغلبية الساحقة من كوادر وأنصار هذا الحزب (السوري القومي الاجتماعي) من ابناء الأقليات. نظراً لهيمنة شخصيات كردية على الحزب الشيوعي السوري منذ تأسيسه وللثقل الكردي القوي في الحزب، فشل (الحزب الشيوعي) في الانتشار الواسع بين المكونات والقوميات السورية الأخرى. حول هذا الظاهرة ، جاء في ( قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري- بيروت 1972): " تذمر أحد قادة الحزب الشيوعي السوري من كون تنظيمه فشل في الحصول على تأييد واسع بين أوساط الغالبية العربية بسبب الشيوفينية القومية المحدودة لأعضاء الحزب الأكراد..".

بدورها عملت الحكومات السورية المتعاقبة منذ الاستقلال على تجذير الوعي الطائفي وترسيخ الولاءات البدائية (الدون الوطنية) في المجتمع السوري، وذلك عبر منح "امتيازات سياسية واقتصادية واجتماعية" لهذه الطائفة أو تلك و لهذه المنطقة أو تلك على حساب بقية الطوائف والمناطق السورية ، كذلك من خلال وضع مناهج تعليمية وتربوية وثقافية، منحازة لدين وقومية الغالبية العربية الاسلامية. هذه العوامل وغيرها تفسر استمرار تأثير الولاءات والاعتبارات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية والجهوية في الحياة السياسية السورية، خاصة إبان الأزمات السياسية و الصراع على السلطة. حتى في عهد حزب(البعث العربي الاشتراكي)، الذي اعتبر انقلابه على السلطة في آذار / 1963 "ثورة " على مختلف العصبيات الطائفية والعرقية والقبلية والاقليمية والشعوبية وانتصاراً للولاء القومي العربي- لأن لا ولاء للوطنية السورية في العقيدة البعثية- ، شكلت الأواصر والمعاير(الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية) جزءاً اساسياً من بنية السلطة داخل النظام البعثي. وقد تعامل (البعث) بازدواجية متناقضة مع الظاهرة الطائفية. فمن جهة، رفضها نظرياً لسلبياتها وتنافيها مع فكره الاشتراكي وعقيدته القومية. ومن جهة أخرى قبل بها وتعاطى معها ووظفها سياسياً في كثير من الأحيان والمحطات باعتبارها أمر واقع وجزء من الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد. بعد انقلاب حافظ الأسد على السلطة عام 1970، اعتمد النظام السياسي الجديد ،الذي ارسى قواعده الرئيس ( حافظ) ،مبدأ (المحاصصة السياسية)، وإن بشكل غير معلن، كنهج جديد في الحكم والادارة. فقد أخذ الأسد بعين الاعتبار التوازنات (الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية) في تشكيل الحكومات ومجالس الشعب والبلديات والنقابات حتى في اختيار رؤساء الدوائر والمؤسسات والقضاة في مختلف المدن والبلدات السورية. هذا النهج الجديد الذي انتهجه حافظ الأسد في الحكم يعود بشكل اساسي لكون الأسد من أبناء "الطائفة العلوية" ، التي عانت من التهميش والاقصاء السياسي ، كباقي الطوائف والاقليات السورية في ظل حكم الغالبية العربية السنية. وقد استمر الأسد الابن( بشار) على نهج أبيه في حكم سوريا. رغم الاقرار الضمني بالمسألة الطائفية من قبل النظام في عهد الأسدين، بقيت "الطائفية" من الخطوط الحمر والمحاذير في سوريا. وقد زجت السلطات الأمنية بعشرات الكتاب والمثقفين والسياسيين السوريين في السجون بتهمة "إثارة النعرات الطائفية" لمجرد اشارة هؤلاء الى الطائفية والتحذير من خطرها ،في مقال كتبوه أو عبر تصريح أدلوا به، أو مطالبتهم برفع الغبن القومي والاضطهاد السياسي عن القوميات الغير عربية والأقليات الغير اسلامية (آشوريون- أكراد – أرمن).&

مع انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية ضد حكم بشار الأسد في آذار 2011 ، ودخول البلاد في نزاع مسلح على السلطة، برزت المسالة الطائفية بشيء من التطرف والغلو على السطح السياسي ، كما تحركت مختلف التناقضات الراكدة في قاع المجتمع السوري، وبدأت السلطة والمعارضة تتبادلان الاتهامات بالتحريض الطائفي والمذهبي والعرقي. السلطة ،التي كانت تهدد باعتقال كل من يتناول المسألة الطائفية ، سارعت الى التحذير من انجرار البلاد الى "فتنة طائفية" إذا ما استمرت التظاهرات الاحتجاجية في الشارع. ففي 26 من شهر آذار، أي بعد أسبوع واحد من اندلاع الاحتجاجات في مدينة درعا ، قالت بثينة شعبان ،المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية:" أنه من الواضح أن هناك مشروع فتنة للنيل من سورية عبر استهداف نموذج العيش المشترك الذي تتميز به". أضافت: " ما يجري هو محاولة إشعال فتنة واستهداف للأمن والاستقرار وحياة المواطنين".وفي أول خطاب له في 1نيسان 2011 ، بعد انطلاق الاحتجاجات، حذر بشار الأسد نفسه من "الفتنة الطائفية" في حديثه عن المتظاهرين بالقول: " أنهم قاموا بالخلط بين ثلاثة عناصر.. الفتنة والإصلاح والحاجات اليومية". على جبهة المعارضة ، من كان من السياسيين والمثقفين السوريين في الماضي ينكر دور وتأثير الولاءات الطائفية في الحياة السياسية بدأ يعترف بهذا الدور، في سياق اتهامهم للنظام بالطائفية وسعيه لاستمالة ابناء الأقليات الى جانبه في معركته على السلطة. كما لم تتردد الكثير من المعارضات في توجيه الحراك الشعبي المناهض للنظام من خلال القنوات الطائفية والمذهبية والعشائرية والاثنية. ليس هذا فحسب، بل أن خطاب كثير من المعارضين انطوى على التحريض والتجييش الطائفي والمذهبي والعرقي. كما رُددت شعارات وهتافات طائفية من قبل متظاهرين خلال المظاهرات السلمية في بعض المدن السورية(حمص).&

في بيئات ومناخات (مجتمعية / سياسية)، سورية واقليمية، تسودها وتتحكم بها الولاءات والمصالح (الطائفية ،الدينية ،المذهبية ،العرقية ،القبلية والشعوبية)، كان لا بد من أن تنتصر" الطائفية البغيضة" ، بتلاوينها وتسمياتها المختلفة، على "الوطنية السورية". ولا بد من أن يجر (العنف والعنف المضاد) سوريا الى حرب داخلية كارثية، بين نظام(ومن معه من ميليشيات محلية ومستوردة) يزعم بأنه يقاتل (ارهابيين اسلاميين)، دفاعاً عن البلاد والعباد، وبين معارضات وتنظيمات اسلامية مسلحة(ومن معها من ميليشيات محلية ومستوردة)، تزعم بأنها تقاتل (نظاماً ارهابياً فئوياً)، دفاعاً عن الغالبية العربية السنية.&

&

&باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات.