من مفكرة سفير عربي في اليابان

بينما كنت في وسط حديقة جميلة، خلابة، وكبيرة، في وسط مدينة طوكيو، انتظر دوري لدخول حفلة شاي يابانية، رتبتها أحدى مؤسسات الدولة، فتحت صفحة الانترنت على تلفون النقال، لأتابع أخبار الصحافة الغربية، وإذا بي أقراء خبرا اقشعر له بدني، ونحن في الألفية الثالثة، وفي عالم العولمة الجديد. فقد كتبت صحيفة التايمز اللندنية خبرا عن تقرير لمنظمة حقوق الانسان الدولية "امنستي انترناشنال" توصف فيه كيف تعامل نساء وبنات اليزدية في العراق، حيث يدفعون غصبا لممارسة البغاء مع ثوار "الدولة الاسلامية"، بعد أن تم جمع اعترافات من فتيات هربوا من رعب عبودية، ما سمي، بالدولة الاسلامية. وتعتقد المنظمة بأن هناك اكثر من الف فتاة، اجبروا على عبودية البغاء، وتعترف فتاة في التاسعة عشر، طلبت عدم ذكر اسمها، لكي لا تتعرض عائلتها للأذى، بقولها: "لقد بدأت أمي تصرخ، وتطالب الرحمة، حينما تم اختياري من مقاتلي الدولة الإسلامية مع اختي، للانضمام لمجموعة من الفتيات. كما شاهدت فتيات تسحب غصبا، من شعورهم، للشاحنات." ويؤكد التقرير بأن هذه& الاتهامات تتوافق مع ما سمع من قبل، من فتيات من الاكراد في سوريا، الذين كانوا تحت رحمة مقاتلو "الدولة الاسلامية" في سوريا. ويقول فالري أموس بأن: "الفتيات الذين تم اعتقالهم كعبيد، بيعوا في سوق النخاسة في مدينة الرقة، فبعضهم بيعوا للرجال في السوق، بينما أبقوا البعض الأخر في بيوت الراحة، ليعانوا من اغتصاب متكرر، من مقاتلي الدولة الاسلامية بعد رجوعهم من المعارك."

تصور عزيزي القارئ: كيف يكون شعورك، وأنت دبلوماسي عربي مسلم، تقرأ هذا الخبر، وأنت تنتظر دورك للدخول لحفلة شاي يابانية تناغمية، في وطن معروف بالتالف والتجانس والألفة والوئام؟ كما يتساءل المرء: ما نوع الثقافة، والتربية، والتعليم، الذي اكتسبته هذه المجموعة الثيوقراطية، من "ثوار" ما سمي بالدولة الاسلامية؟ وما دور الصراع الثيوقراطي الطائفي، الذي يدور في الشرق الأوسط، بعد ما سمي، بالثورة الإيرانية، في انتعاش سرطان هذه المجموعات وإيديولوجياتها المتطرفة؟ وهل ترقص إسرائيل فرحا بما يجري، أم ستحترق بلهيب نارها؟

فليسمح لي عزيزي القارئ أن أنقله من هذه البيئة السرطانية المريضة، التي تعيشها بعض بناتنا في منطقة الشرق الأوسط، تحت رحمة ما سمي بالدولة الاسلامية، بعد أن اختلط الحابل بالنابل، أي بعد أن خلطت روحانية وسمو ديننا الاسلامي الحنيف، بنجاسة وخساسة السياسة في منطقة الشرق الاوسط، وخاصة منذ بدء محاولة المتطرفين تصدير سرطان الثيولوجية "الطائفية" الايرانية في عام 1979، لباقي منطقة الشرق الأوسط، بل ومنذ بدء دعوتها للقضاء على إسرائيل، بمشروعها النووي، لتنتهي بتحقيق الحلم الصهيوني، بتفتيت وطننا العربي لدويلات عرقية، قبلية، طائفية، متحاربة.

ولنتذكر عزيزي القارئ حينما نستخدم تعبير "وطننا العربي"، نعني به وطن لكل إنسان يعيش على أرضه، بمختلف أديانه، وأعراقه، وأجناسه، وطوائفه، وقبائله، بل "نحلم" بتحول هذا الوطن لمجموعة اقتصادية صناعية قوية متناغمة ومتالفه، لتحقق لشبابها خيرة التعليم والتدريب، وتهيئهم للعمل المنتج والمبدع، لتطوير صناعات تكنولوجية متقدمة، مع تجار مبدعين، في سوق إقليمية كبيرة، كجزء من سوق عولمة رأسمالية عادلة، لنكون جزءا من عالم حضارة الألفية الثالثة القادمة، لا عالة ثيولوجية سرطانية عليها.

لنتذكر عزيزي القارئ بأنه بعد أن عانت اليابان قرون طويلة من التفتت والتفرقة والطائفية والعنف والحروب الدموية، امن الشعب الياباني بالسلام ونبذ العنف. لذلك طور شعبها بعد معاناة تاريخية طويلة وقاسية، ثقافة يابانية غنية بالتالف والتلاؤم والتجانس، وتتميز خاصة بالذكاء العملي لخلق تناغم مجتمعي جميل، يجمع بين أدب وظرف فن المحادثة الكلامية والصامته، وهدوء وحكمة ضبط الأعصاب، وصدق وصراحة& التعامل، وأمان وسلام السلوك، ليخلق كل ذلك نوع من الطمأنينة، والأمان، والحكمة، والراحة في المعيشة الحياتية باليابان. والعجيب بأن تناغم& السلوك ترافق باحترام الوقت، ودقة الأداء، وحرفية المهنة، وإتقان العمل، وقد أدى كل ذلك لتناسق رائع بين روحانية الشخصية اليابانية، وجمال أخلاقيات سلوكها، وبراعة أدائها في العمل. وقد تطورت هذه الشخصية عبر العصور من خلال ثقافة مجتمعية تجمع تالف جميل بين الإنسان والطبيعة، ومرتبطة بفلسفة روحانية هادئة، تعتبر بأن كل ما خلقه الخالق جلت عظمته، من ظواهر طبيعية، ونباتات، وكائنات حية،& ملئية بالروح، وتسمي في اللغة اليابانية بال "كامي". كما تضم هذه الثقافة ظواهر فنية مجتمعية، تجمع بين جمالية تنسيق الزهور، وبراعة الكتابة الكوريوغرافية، وفن مسرح النو، وإحتفالية شرب الشاي، وتقديم الحلويات الجميلة المنظر والشهية الطعم، بل وحتى جلسة الطعام اليومية قد تأخذ شكل احتفالية فنية، تجمع بين تنوع جميل لوجبة الطعام، وفي أواني أنيقة فاخرة، مع تنسيق جميل للورود على طاولة الأكل.
ولنحاول عزيزي القارئ في هذا المقال تفهم بعض مظاهر الثقافة اليابانية من خلال دراسة ظاهرة طقوس حفلة الشاي، كما سنستعرض في الجزء الثاني من المقال علاقة هذه الظاهرة بفلسفة روحانية الزن، والتي انتشرت في اليابان بعد القرن الخامس الميلادي، منتقلة من الصين، من خلال شبه الجزيرة الكورية، بعد أن بدأت في شبه القارة الهندية في القرن السادس قبل الميلاد.
&تسمى في اللغة اليابانية احتفالية شرب الشاي ب "السادو". وتجمع هذه الاحتفالية طقوس كريوغرافية دقيقة في السلوك، وهادئة& في بيئة التحضير، وجميلة في ترتيب موقع ومكان وجدران هذه الاحتفالية.& ويتم تحضير وتقديم& مسحوق الشاي الأخضر، المسمى ب "ألأوشا"، بعد أن يقدم للضيف الحلويات التقليدية اليابانية، رغبة في خلق توازن بين مرارة طعم& الشاي، مع حلاوة لذة الحلويات. وتجمع هذه الطقوس بين كرم استقبال الضيوف، وآداب التعامل معهم، مع سلوك احترام تواجدهم، بالإضافة لفلسفة جمال أعداد كأس كبير من الشاي، من خلال رغبة من صميم قلب المضيف، كما يهتم الشخص المضيف بكل حركة صغيرة من حركاته.
وقد عرف شرب الشاي في الصين منذ القرن الرابع، ونقلت بذور الشاي الأخضر من الصين إلى اليابان في عصر سلالة "التانج" الصينية الحاكمة في الفترة ما بين عام 617 وحتى عام 907 ميلادي، بعد أن وصل التبادل الثقافي بين الصين واليابان إلى القمة. وقد بدأت كتب التاريخ ذكر طقوس حفلة الشاي في القرن الثامن، كما كتب كاهن بوذي صيني كتاب باسم، شا شنج، عن كيفية تحضير الشاي، ويعتقد بان أساسيات حفلة الشاي اليابانية اقتبست من هذا الكتاب.
وقد طورت زراعة الشاي الأخضر في اليابان في عصر "نارا"، في الفترة ما بين عام 710 وحتى عام 794 ميلادي، واستهلك الشاي في هذه الفترة من قبل الكهنة والنبلاء كنوع من الدواء. وتحولت مع الوقت استخدامات الشاي من دواء إلى شراب في الصين مع نهاية عصر حكم "التانج" في بدايات القرن العاشر، ولكن لم تتطور هذه الثقافة في اليابان إلا بعد زمن طويل، بسبب تعرض العلاقات الدبلوماسية الصينية اليابانية لخلافات جديدة في هذه الفترة. وقد كانت كمية الشاي المتوفرة قليلة جدا في اليابان في تلك الفترة، لتصبح سلعة ثمينة في فترة عصر "نارا" وعصر "الهين" بين عام 794 وحتى عام 1192. كما تطورت مفاهيم ثقافة احتفالية شرب الشاي على أساس ندرته في ذلك الوقت، لذلك يعتقد بعض المؤرخين بأنه لو كان الشاي متوفر بكثرة في تلك الفترة، لما تطورت طقوس احتفالية شرب الشاي في اليابان بهذه الدرجة.
وفي عصر الكاماكورا، في عام 1187، قام كاهن ياباني يدعى "ميون إيساي"، بالسفر للصين لدراسة الفلسفة الصينية ودياناتها. وحينما رجع إلى اليابان أصبح مؤسس للعقيدة البوذية في اليابان والتي تعرف باللغة اليابانية بعقيدة "الزن"، وقام بجهد كبير لبناء أول معبد لهذه الطائفة. وتبين كتب التاريخ بأن هذا الكاهن البوذي كان أول من زرع الشاي لأهداف دينية، بدل زراعته سابقا كنوع من أنوع النباتات العلاجية، كما لعب دورا في تطوير طرق تحويل أوراق الشاي إلى مسحوق الشاي الأخضر، بالإضافة لطقوس غلي الماء قبل تحضير كأس الشاي وإضافة مسحوق الشاي فيه. وقد ذكر الإمبراطور "سانج" في كتابه، النظرة العامة للشاي، طريقة خاصة لمزج الشاي بالماء المغلي باستخدام مقشة من الخيزران. وقد برز بعض العداء من الكهنة البوذيين اليابانيين الذين لم تعجبهم فكرة الكاهن "ميون إساي" الدينية عن شرب الشاي، التي استوردها من الصين، ولكنه مع ذلك نجح في إقناع بعض قيادات السموراي، الشوجن الكاماكورا للدفاع عنها، لتستمر هذه الثقافة في التطور مع الوقت.
وقد أستمر اهتمام الراهب البوذي، إساي، بتطوير احتفالية شرب الشاي، وكتب بحث طويل عن فائدة شرب الشاي للصحة، وخاصة في علاج فقدان الشهية، ومرض البريبري والشلل حسب وجهة نظره، وبذلك انتشرت عادة شرب الشاي في اليابان، وخاصة بين عساكر السموراي. وقد ابتلت اليابان بحرب أهلية بعد أن ضعف عساكر الشوجن الكماكورا في عام 1333، وفقد الشعب الياباني الثقة بهم، لتنتهي سلطة الحكومة المركزية. وليبدأ عصر جديد لطبقة نبلاء الجيكوكوجو، الذين اشتهروا بالبذخ، وانتشرت حفلات تذوق الشاي بينهم، وخاصة الحفلات التي كانت تقدم جوائز ثمينة لأكثر أنواع أوراق الشاي الأخضر جودة. كما زاد هوس تقديم عدد كؤوس الشاي للفرد الواحد في الحفلات لترتفع من عشرة كؤوس شاي، لحوالي المائة كأس للفرد في الحفلة. لذلك تطورت في هذه الحفلات فكرة استخدام كأس كبير للشاي ينتقل بين المدعوين، بدل أن يكون لكل ضيف كأسه الخاص. كما انتشرت عادة تنقل كأس الشاي بين افراد العائلة في مجتمعات عساكر السموراي، التي كانت علاقاتهم العائلية حميمة.
وقد اشتهر الكاهن الزن البوذي الياباني، "موراتا شوكو"، بتصميم غرف صغيرة لاحتفالية شرب الشاي، كما عرف بعدها باسم الأب الروحي لاحتفالية شرب الشاي، حيث طور طقوس الاتيكيت المتعلقة بها. وقد درس "موراتا" البوذية وهو في الحادية عشر من العمر، واستمر في خدمة المعبد حتى العشرين من عمره، كما طور طقوس حفلة شرب الشاي في غرف صغيرة، وربطها بفلسفة الزن البوذية اليابانية، وطور حميمة العلاقة بين ضيوف شرب الشاي، حسب المفاهيم البوذية اليابانية.
والجدير بالذكر بأن الادوات والأواني التي تستخدم في تحضير حفلة الشاي، قد تكون متنوعة وقديمة وثمينة جدا لقدمها، وقد ترجع بعضها لمئات السنين، وبتصاميم لحقب تاريخية مختلفة، وبرسوم فنية فاخرة. كما أن الخطوات العملية للتحضير لطقوس احتفالية شرب الشاي معقدة، ومرتبطة بآداب سلوك صارمة، وبرحانيات عميقة، مع صمت كامل وبصفاء ذهني عجيب. كما تختلف الترتيبات حسب فصول السنة، بل وحسب اوقات اليوم. فترتيبات حفلة الشاي في الشتاء تختلف تماما عن مراسيم فصل الربيع بألوانه وأزهاره الجميلة، كما تجمع حفلة الفجر متعة تذوق الشاي الأخضر، مع الاستمتاع بجمال بزوغ الشمس تدريجيا، بينما تتميز في المساء بالاستمتاع بجمال القمر. وتطورت ثقافة احتفالية شرب الشاي مع الوقت لتنتشر بين الشعب الياباني، كما تتدرب النساء اليابانيات على تحضيرات هذه الاحتفالية. فيتم عادة دعوة خمسة إلى سبعة من الأصدقاء لاحتفالية شرب الشاي، ويتم الجلوس على حصير من أوراق الخيزران، وفي غرفة صغيرة، وتكون الحفلة على شرف كبار الضيوف، بدءا بالضيف الأول ثم الثاني ويتبعهما البقية. ويتسلم قيادة المحادثة الهادئة ضيف الشرف، ويفضل باقي الضيوف الصمت والاستماع، كما ان هناك قوانين صارمة لآداب دخول الغرفة والمشي فيها، وطريقة الجلوس على حصير الخيزران، وطرق التعقيب في المحادثة. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان