بدأ التعريب في المغرب منذ فجر الاستقلال. تم الشروع فيه لحظة خروج المستعمر، فنشأت، مباشرة، نتيجة لذلك، فكرة القومية العربية في المغرب، على أيدي السلطة، وبدأت القومية العربية تنتشر وتتوسع عبر المدرسة، وفي الجامعة، ووسائل الإعلام الجماهيرية الرسمية، من إذاعة، وتلفزيون، وصحافة مكتوبة، لتغزو الساحات، وتستحوذ على عقول الناس، الأمر الذي أدى إلى احتكارها للساحة السياسية المغربية، وطمْس الهوية الوطنية المتمثلة في الأمازيغية، وصار المغرب عقب ذلك، بهوية عربية، مغايرة لهويته الأمازيغية الخالصة.

هكذا باختصار شديد يقرأ بعض النشطاء الأمازيغ تاريخ المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، ويقدمونه إلى الجمهور على هذه الشاكلة. إنه تاريخ بسيط وأوتوماتيكي وواضح، وطبعا كانت المؤامرة خلف كل ما وقع، فالتعريب كان مؤامرة ضد الأمازيغ، والفكرة القومية المنتشرة في الساحة المغربية بدورها مؤامرة ضد الأمازيغ، والجهة التي تقف خلف التآمر على الأمازيغ هي السلطة الحاكمة في المغرب.

بقراءة بسيطة ونقدية لهذه الأطروحة يمكن للمرء أن يقف بكل سهولة على تهافتها وسطحيتها. فالمغرب منذ وصول العرب إليه، وإنشاء أول دولة عربية إسلامية فيه على أيدي الأدارسة، ومنذ أن انتشرت العربية في ربوعه وصارت لغة الإدارة والعلم من طرف أبنائه، ومنذ أن تآخى العرب والأمازيغ بينهم بفضل الإسلام، منذ ذلك الزمن البعيد صار المغرب بلدا عربيا إسلاميا أمازيغيا.

التعريب، بما هو انتشار كاسح للغة العربية في المغرب، ليس حدثا طارئا جاء به الاستقلال، كما يقع الترويج لذلك من طرف هؤلاء النشطاء. العربية كانت اللغة المسيطرة على الميدان والتي يتم اعتمادها وحدها رسميا لتسيير شؤون الدولة المغربية من طرف جميع السلالات التي تعاقبت على حكم هذه البلاد منذ عصر الأدارسة إلى عصر العلويين. هذه حقيقة ثابتة ومسلم بها ولا يستطيع إنكارها حتى أكبر المجاحدين. من يحاول إنكار هذه الحقيقة، فإنه كمن يحاول إنكار الوجود المادي لدولة اسمها المغرب بتاريخها المعروف من لدن الجميع.

&لقد كانت العربية لقرون وقرون لغة الإدارة، والإرساليات الدبلوماسية، والمساجد، وصك العملات النقدية، وإبرام العقود، وكانت لغة العبادة، واللغة التي يخاطب بها الحكام رعيتهم.. بعبارة أدق، كانت العربية لغة المجتمع التي يعتمدها بشكل تلقائي وجماعي لتصريف شؤونه المشتركة. عاشت باعتبارها أداة راقية، توافق المغاربة، عربا وأمازيغا، على استعمالها في التحاور بينهم لقضاء مآربهم التي كانوا ملزمين للتحاور حولها والتفاهم في شأنها.&

لم تكن هناك جهة خارجية تجبر المغاربة على التعامل بالعربية بشكل قسري، لو وجدت هذه الجهة وسلمنا بأنها كانت ترغم المغاربة على استعمال العربية، لصح حينئذ القول إن المغاربة كانوا يخضعون لتعريب لا يرغبون فيه، أما إذا كانوا هم من تلقاء أنفسهم وبقناعة منهم اختاروا هذه اللغة، وجعلوا منها، بشكل طوعي، وسيلة للتواصل في ما بينهم، فإن أي حديث عن التعريب، بالمعنى القسري، يكون كلاما مطلقا على عواهنه، ولا يمتلك أي قيمة علمية.

إذا كانت العربية هي اللغة السائدة في المغرب منذ قرون خلت، فإن الاستقلال لم يأت بأي جديد على حين لجأ إلى توظيفها، فالتأكيد على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد كما ورد في الدساتير المغربية، واستعمالها في الإدارة والتعليم، كان ببساطة شديدة، إقرارا بأمر واقع، وتماشيا مع حركة التاريخ، ولم يكن إنزالا طارئا بالمظلة، وتعسفا مورس ضد الأمازيغ، كما يكرر ذلك بعض النشطاء بمناسبة أو بدونها.&

عدم الإشارة في دساتير ما قبل سنة 2011 إلى الأمازيغية واعتبارها، هي كذلك، لغة وطنية، كان خطأ ووقع تداركه، ولكن هذا الخطأ الذي ساد لزمن في فترة الاستقلال، لا يُحول ادعاء النشطاء الأمازيغ بأن هناك تعريبا للمغرب من طرف الدولة، إلى وصف مطابق لواقع الحال في بلادنا. شتان بين الأمرين، المغرب بلد عربي أمازيغي، ومعرب أصلا في الجزء الأعظم منه منذ فجر التاريخ، ولا يحتاج لمن يقوم بتعريبه. الدولة بعد الاستقلال كانت تجاري ما هو قائم وتواكبه.

&كل من يحاول مصادرة هذه الحقيقة وإلغاءها يحاول عبثا تزوير حقيقة المغرب تاريخا وثقافة وإنسانا، ولن يتحقق له أي شيء من مسعاه اليائس هذا. حقيقة أي بلد لا تتحدد بقرار تستصدره جهة من هنا أو من هناك، وتفرضه من الفوق على المجتمع بالإكراه والإرغام. أي محاولة في هذا الاتجاه مصيرها الفشل الذريع.&

إذا تجاوزنا سخافة تعريب المغرب بالقوة وانتقلنا إلى زعم النشطاء الأمازيغ حين يتحدثون عن كون الفكر القومي العربي نشأ في كنف الدولة المغربية، وهي التي كانت تموله وترعاه، فواضح أن هؤلاء إما أنهم لا يعرفون ما يقولون، أي أنهم يجهلون الحقائق المتصلة بالموضوع، وإما أنهم يعرفون التفاصيل، ولكنهم يتكلمون كلاما إيديولوجيا لتزييف الواقع والتاريخ.

الدولة العميقة في المغرب، خصوصا النواة المتحكمة في الاقتصاد والثروة والجيش وصنع القرار واتخاذه ببلادنا، كانت منزعجة من الفكر القومي، وكانت تعاديه وتحاصره، وترفض انتشاره في بلادنا. إنشاء الحركة الشعبية سنة 1958، من طرف الإدارة المغربية، كحزب لادعاء الدفاع عن الأمازيغ، كان من ضمن أهداف هذا الإنشاء محاربة الفكر القومي والتشويش عليه. لم تنشأ الحركة الشعبية بتوجهاتها الأمازيغية حبا في الأمازيغ، ومن منطلق الدفاع عن التعددية الحزبية التي كانت مهددة بالحزب الوحيد غداة الاستقلال كما يتم الترويج لذلك على نطاق واسع. لقد تم إنشاء الحركة الشعبية لكي تتم عبرها مواجهة الحركة الوطنية، وتكون وسيلة الإدارة في الانتخابات والاستفتاءات لتزوير إرادة الناخب، وتشاغب من خلالها على انتماء المغرب لمحيطه العربي بالتركيز على أمازيغيته.

&بمعنى آخر، كانت الدولة العميقة، وتحت شعار أمازيغية المغرب، هي التي تحارب فكرة القومية العربية، ولا تقبل بها، والخلافات الحادة في وجهات النظر بين العاهل المغربي الحسن الثاني وجمال عبد الناصر معروفة، وتم الإعلان عنها مرارا من طرف العاهل المغربي الراحل، وتصريحات الزعيم الأبدي للحركة الشعبية المحجوبي أحرضان وزياراته لإسرائيل خير دليل على ما نقول، ولقد أقر هو في تصريح لافت له قبل زيارته للدولة العبرية، بأنه استشار في الأمر مع من هم أهل الرأي، وأخذ موافقتهم، ومن تم قام بالزيارة.

الدولة في هذا الباب، أي مناهضة الفكر القومي العربي في المغرب، كانت منذ وقت مبكر جدا وبالمكشوف، مع النشطاء الأمازيغ، بل إنها سبقتهم في رفضها لهذا الفكر، وهي ترحب بحماس بما يقومون به في هذا الصدد، ولذلك لا مبرر لدى هؤلاء النشطاء لكي يُلصقوا بها تهمة أنها كانت ضدهم: دولة قومية عربية، ناصرية، بعثية، عفلقية، كلام من هذا القبيل لا يصدر إلا عن مخبول ومتسول لمظلومية زائفة.&

&