من دون الوقوف طويلاً في ميدان الدولة أو التركيز على أبعاد فكرتها وتأثيرها النفسي إيجاباً على مواطنيها، باعتبار أن الأكراد محرومين من هذه النعمة التي قد لا تكون ذات أهمية لدى من يشعر بعدم حاجته إليها، بما أنه أصلاً لم ينحرم من محاسنها، ومع الاقتناع بأن ليس كل من لم يمتلك دولة تعنيه أو تمثله في المحافل الكونية هو خالٍ من عُقد النقص بناءً على ما يملك، ولكننا مع ذلك نرى بأن مصدر أكثر الارتجاجات البنيوية لدى الانسان الكردي بوجه عام هي غالباً ما تكون متعلقة بغياب الدولة القومية التي بمقدورها أن تحرره من تلك العقدة التي كانت العقبة الدائمة والمطب الذي لم يستطع تجاوزه، لذا قد تدوم فترة قلقة وهي سائرة معه أينما حطَ رحاله، بل ويبدو وكأن هاجس عدم الاكتمال سيظلُ حائماً فوق سمائه، ولكن الغريب في الأمر أنه بدلاً من أن يسعى مع من يعانون من نفس العقدة والبحث عن مخرجٍ مناسب لحلحلة تلك الاشكالية، نراهُ يقصف العلة وصاحبها قبل من كان السببَ ومن حرَّمهُ منها، فقد تكون البداية مع اللطمِ وذلك من باب لوم النفس، ولكن السيء في أمر العلة أنها غالباً ما تتحول مع مرور الزمن الى احتقار الذات، لذا ولمجرد أن تتغير البيئة حتى تراه متغيراً مع هواجس انتمائه، مرةً تراه راكضاً بسرعةٍ تشير بأنه واقعٌ في حالةٍ ربما ستعاكس رغبته قبل الانطلاق ومن ثم الارتداد، ومرةً تراهُ من فرط تمهله تعبره الامم وهو جاثمٌ وملتفٌ على علته لا يهزه أي شعورٍ بالمنافسة، ولا يُقلقه انبطاحه على الصعيدِ بعد أن اعتلى الكل على الخشبة، وذلك بكونه وصل الى أدنى مرحلة من مراحل الانهزامية والميوعة والتصغير في كينونته.

ولقد آمنا من قبل بأن الكردي عندما سارع للاندماج بالدين الاسلامي والثقافة الاسلامية، لم تكن المشاعر القومية حينئذٍ قد بلغت حدتها عند الكثير من الشعوب في المنطقة، مع أن الفرس والعرب والترك لم يدوسوا يوماً على هوياتهم القومية كما فعل الكرد كُرمى اللحاقَ بدينٍ لم يكن من إنتاج بيئتهم، واعتنقوا كما هو معروف بحد السيف الدين الاسلامي أفراداً وجماعات، رغم أن الدين الجديد لم يجلب إليهم أي جديد على ما كانوا عليه، باستثناء التقرب من النبي وأصحابه، عساهم ينجدونهم من النار ويتوسطوا لهم لدى الخالق كرمى الدخول الى الفردوس الذي آمنوا بوجوده، لذا فكان الخوف والطمع بالمغريات الماورائية لمعظمهم، مع الزمن ومن دون درايتهم سبباً رئيسياً لإبعادهم تدريجياً عن فكرة الاعتناء بلغتهم، آدابهم، ثقافتهم، وتراثهم، كما كان السبب في ترك نوابغهم ساحة اللغة الكردية والتأليف بلغة القرآن باعتبار أنها ستكون لغة الآخرة، وكذلك باعتبارها اللغة التي ستوصلهم الى أعلى المقامات لكثرة القراء المسلمين في عالمهم، وبناءً على تلك القناعات وكذلك سيطرة الأنا الشخصية كهدف الفوز والحصول على المُتع الماورائية، انسلخ مئات الآلاف من الكرد عن ملتهم وصاروا مع الأيام في عِداد الأمم الأخرى، التي كثيراً ما يستحقر بعض أفرادهم الكردي أكثر من استحقار الشخصِ لفضلاته.

وفي فترة المد الشيوعي أيضاً رأينا الكثير من الكرد من فرط شيوعيتهم واضعين الروسَ وكل ماركسيي العالم تحت آباطهم، وكان الكثير من الكرد الشيوعيين لكي يثبتوا للآخر بأنهم أكثر شيوعية، يروح مستحقرين أي شيء يشير الى انتمائهم، وبالنسبة للكرد الشيوعيين في سوريا كان ذكر كلمة كردستان تماثل تماماً في كراهيتها كلمة الصهيونية لدى القوميين العرب، وكان واحدهم من كثر دونيته القومية يعتبر انتمائه للقومية من أكبر النقائص، في الوقت الذي كان بإمكانك أن ترى الآخر شوفينياً حتى وهو يتسنم أعلى المقامات في الأحزاب الشيوعية، بل وكان الكردي الشيوعي من كثر اهتمامه بقضايا المعمورة وحرصه على القضية الفلسطينية تشعر وكأنه من سكان القدس، وربما يزاود على الفلسطينيين في الدفاع عن قضيتهم، باعتباره معني بالدفاع عن كل قضايا الكون، باستثناء قضيته طبعاً، وذلك حتى لا يشك أحد الماركسيين بقوة شيوعيته وعظمة انسلاخه، وكثيراً ما كنا نتذكر عند حضور بعض تلك النماذج قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب وهو يقول: "يُدافع عن كل قضايا الكون ويهرب من وجه قضيته.........الخ، وذلك كلما رأينا شيوعياً كردياً من تلك الأوبة الخنوعة والمنسلخة تقرباً من صاحب السطوة وإرضاءً للأنا القومية لدى الآخر.

واليوم أيضاً ظهر لدينا نموذج كردي مماثل تماماً لمن ذكرناهم، ولكن بثوب جديد ألا وهو الادعاء بتمثل أو ارتداء الفكر الانساني الذي جاء بعد الليبرالية والعلمانية، وذلك ليتشبهوا بالأوربيين، باعتبارهم القدوة في الانسانية حسب نظرتهم، وكل ذلك لا لشيء سوى التهرب عن أداء الواجب تجاه الملة التي ينتمون إليها، علماً أن الأوربيين لديهن الاستعداد الدائم للاعتناء والدفاع حتى عن بضع حيوانات في غابةٍ ما، أما هو فيتهرب حتى عن واجب العناية بوالديه الذين حرموا أنفسهم من كل شيء لقاء وصوله الى تلك البقعة الجغرافية من العالم، ويظهر أن ترويج فكرة الشرقي المقيم في أوروبا عن أنه ينتمي لذلك التيار الحديث هو فقط بهدف التخلص من العبء الذي يشكله الأهل عليه، وأيضاً لكي يتملص من أداء واجباته تجاه ملته التي تنتمي هي الأخرى للإنسانية التي يدعي هو بأنه ينتمي إليها، وليس للقطيع الحيواني الذي يعتني به الاوروبيون أكثر من اهتمامه هو بالبشر بمن فيهم أهلهُ وأناسه وذويه، ولكن يبدو بأننا أمام نموذج كردي جديد استطاب رغد العيش في الدول الأوروبية بعد الانتقال اليها، وهو يحاول بشتى الوسائل البحث ذرائع تدعم رغبته في التحرر من ماضيه وما يمثله ذلك الماضي، هي إذن ظاهرة جديدة مثل العِلل السابقة المذكورة في سياق المقالة تماماً، ولكنها هذه المرة جاءت بثوبٍ مزركشٍ مُعاصر، العلة المُرتدية ثوب (الانتماء للإنسانية) أي التشبثَ بالظاهرة التي قد تسمح له فضفاضيتها بأن يتخلص نهائياً من الهموم الانسانية لتلك الفئة التي كان في يومٍ ما منهم وينتمي بكله إليهم.

&