مائة عام وأكثر، فصول وحلقات الابادة والتطهير العرقي والديني بحق الأرمن والآشوريين(سريان وكلدان) ومسيحيي المشرق عامة مستمرة بطرق واشكال مختلفة. في كل المذابح الجماعية والفردية، القديمة والجديدة، القاتل المجروم هو ذاته" مسلم " الهوى والهوية والانتماء والعقيدة.. تارة عثمانياً تركياً وكردياً وتارة أخرى عربياً و فارسياً ايرانياً. أنهم لم يكتفوا باغتيال الذاكرة التاريخية والهوية الحضارية لمسيحيي المشرق. لهذا قرروا تصفية المسيحيين والقضاء على المسيحية من هذه المنطقة، التي ظهرت فيها ومنها انتشرت الى مختلف انحاء العالم. تحل الذكرى المئوية الأولى للإبادة الأرمنية الآشورية على يد العثمانيين (24 نيسان 1915 )،والمشهد الآشوري والمسيحي السوري مثقل بالعديد من الملفات والقضايا ( ملف المخطوفين الآشوريين لدى تنظيم الدولة الاسلامية- داعش. ملف آلاف العائلات الآشورية والمسيحية النازحة من قراها وبلداتها. ملف المطارنة المخطوفين، يوحنا ابراهيم و بولس اليازجي. ملف القضية الآشورية بكل ابعادها السياسية والحقوقية. ملف الهجرة الآشورية والمسيحية من سوريا والمنطقة. قضية السياسيين الآشوريين المعتقلين في سجون النظام السوري ). هذه الملفات وغيرها من القضايا الحساسة والهامة كادت أن تطغى بثقلها الكبير وجرحها العميق على الذكرى المئوية الأولى للإبادة الآشورية السريانية الأرمنية المسيحية، أكبر إبادة جماعية ومأساة إنسانية شهدها القرن العشرين). حيث أبيد فيها نحو مليون ونصف مليون أرمني وأكثر من نصف مليون ( آشوري /سرياني/كلداني) وعشرات الالاف من اليونانيين، بأيدي القوات العثمانية بمشاركة عشائر كردية، خلال حملة نُظمت بأمر من السلطنة العثمانية مستغلة ظروف الحرب العالمية الأولى للتخلص من جميع المسيحيين الخاضعين لحكمها. مقارنة بسيطة لتعداد مسيحيي السلطنة قبل الإبادة وبعدها تكشف هول الكارثة التي جلبها العثمانيون على المسيحيين. فقد تراجع تعدادهم من نحو 4 مليون مسيحي، كانوا يعيشون في الولايات الأرمنية والأقاليم الآشورية السريانية التي احتلها العثمانيون وضموها لدولتهم التركية الحديثة، الى اقل من عشرة آلاف مسيحي، نتيجة القتل الجماعي والترحيل القسري والتحول بحد السيف الى الاسلام. فلو لا الابادة الجماعية كان من المفترض أن يكون تعداد مسيحيي الدولة التركية اليوم أكثر من 20 مليون، وليس فقط نحو 100 ألف مسيحي،هددهم العثماني الجديد ( أردوغان) بالطرد، رداً على توالي الاعترافات الدولية بالإبادة.&

"الابادة الجماعية"، من الجرائم الكبيرة ضد الانسانية،التي يعاقب عليها القانون الدولي من ارتكبها (وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 96 الصادر في 11 كانون الأول 1946 )، سواء أكانت الجريمة مرتكبة على أسس دينية أو عرقية أو سياسية أو غيرها. لهذا الدولة التركية، التي يلاحقها شبح الابادة ويؤرقها الاعتراف الدولي بها، تنفي حصول الابادة من اساسها،وهي سعت لدفن ملف الابادة مع ضحاياها ومحوها من ذاكرة التاريخ. لكنها أخفقت في هذه المهمة، بفضل مئات الوثائق والمصادر التي وثقت المذبحة وشهادات أحياء نجوا من ويلاتها ووجود عشرات التحقيقات والبحوث لمؤرخين وباحثين أجانب مستقلين تؤكد حصول الابادة. منها مذكرات المؤرخ البريطاني المعروف(ارنولد توينبي) الذي يقول فيها: " لم يكن المخطط يهدف إلا الى إبادة السكان المسيحيين الذين يعيشون داخل الحدود العثمانية". والسفير الاميركي لدي القسطنطينية آنذاك (هنرى مورجنتاو) يقول في كتابه (قتل امة): "في ربيع عام 1914 وضع الاتراك خطتهم لإبادة الشعب الأرمني وانتقدوا اسلافهم لعدم تخلصهم من الشعوب المسيحية أو هدايتهم للاسلام منذ البدء". حتى الآن، اعترفت ( 22 دولة ) بالإبادة الارمنية، بينها فرنسا وإيطاليا وروسيا، بالإضافة لبرلمان الاتحاد الأوروبي. فيما اعترفت (السويد وارمينيا وهولندا والتشيك والنمسا)، بشمول الابادة الجماعية، الاشوريين(سريان / كلدان) واليونان. وفي خطوة تاريخية، وصف بابا الفاتيكان فرنسيس أثناء عظته صباح اليوم الاحد 12 نيسان الجاري، ما جرى للأرمن والآشوريين السريان على يد العثمانيين إثناء الحرب الكونية الأولى بـ"الإبادة الجماعية". التصريح البابوي، الذي تزامن مع اعتراف برلمان الاتحاد الأوربي مجدداً بالإبادة الأرمنية، اغضب الأتراك، حكومة وشعباً، وافقدهم أعصابهم، وجعل تركيا تعيش حالة من الرعب الحقيقي. فقد سارع رئيسهم( اردوغان) الى تحذير البابا من تكرار تصريحاته، وهدد مفتي أنقرة بتحويل كنيسة (آيا صوفيا) في استنبول مجدداً الى مسجد، بعد تحويله الى متحف في عهد كمال أتاتورك. مع توالي الاعترافات الدولية والهيئات والمنظمات الحقوقية بالإبادة الجماعية لمسيحيي السلطنة العثمانية، يكون ملف "الابادة"، قد تخطى مرحلة التثبيت والتحقيق، ودخل مرحلة مطالبة المجتمع الدولي(الدولة التركية)،وريثة السلطنة العثمانية، الاعتراف بالإبادة الجماعية وإرغامها على الجلوس على "كرسي الاعتراف" وتحمل مسؤولياتها القانونية والاخلاقية تجاه ضحاياها.

&أنه لمن المؤسف حقاً، أن لا تعترف حتى الآن اية دولة عربية أو اسلامية بالإبادة، باستثناء (لبنان) المتميز بنظامه السياسي وبتركيبته الطائفية. كان المنتظر أن تكون (الدولة السورية) سباقة في الاعتراف بالإبادة، فهي الدولة الشاهدة على الجريمة، باعتبارها احتضنت آلاف الهاربين من ويلاتها، وتحوي اراضيها العديد من المقابر الجماعية لضحاياها، الكثير منهم سريان سوريون،ناهيك عن أن تركيا تحتل اراض سورية مهمة، مثل لواء اسكندرون والجزيرة السورية العليا. ثمة انفتاح ملحوظ في السنوات الأخيرة من قبل الحكومة السورية على ملف الابادة. لكن هذا الانفتاح مرتبط بالأزمة السورية الراهنة والدعم التركي للمعارضات السورية و للتنظيمات الاسلامية المسلحة المنخرطة بقوة في الحرب السورية الى جانب مسلحي المعارضة. النظام السوري المأزوم، أخذ من قضية الابادة "ورقة سياسية" يلعب بها ضد الحكومة التركية بهدف الضغط عليها وإجبارها على تغير موقفها من الأزمة السورية ومن قضية إسقاط حكم بشار الأسد.&

&مائة عام والإبادة مستمرة بطرق وأشكال مختلفة بحق مسيحيي المشرق. وقد زادت أوضاعهم سوءاً وخطورة في السنوات الأخيرة. وبشكل أكثر أوضاع مسيحيي الدول التي طالها ما يسمى بالربيع العربي. الربيع الذي أجج العنف الديني والمذهبي والعرقي في دول ومجتمعات المنطقة، وأزاح كل الحواجز السياسية والموانع المجتمعية والأمنية من أمام المجموعات والتنظيمات الاسلامية المتشددة والمتطرفة، مثل تنظيم القاعدة وجبهة النصرة وغيرها، التي كانت تنتظر وتتحين هكذا فرصة لتنفيذ وتطبيق أجندتها الطائفية والمذهبية ومشاريعها الظلامية.

&مع ظهور تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، الوجه الجديدة للعثمانية ولحركة (تركيا الفتاة) التي خططت للإبادة الأرمنية -الآشورية المسيحية، بلغ اضطهاد مسيحيي المنطقة مستويات خطيرة جداً وغير مسبوقة. فهذا التنظيم الاسلامي، الأكثر تطرفاً وإرهاباً من بين التنظيمات الاسلامية المتشددة التي ظهرت حتى الأن، يعمل على فرض نسخته الدموية "الظلامية المتوحشة" من الإسلام، ويسعى لتطهير المنطقة من المسيحيين الصليبيين (الكفار) – وفق توصيفاته- ومن غير المسلمين، لا بل حتى من المسلمين الذين يخالفونه في قراءة وتفسير الاسلام. تطبيقاً لمنهجه المتطرف، نفذ تنظيم الدولة في المناطق التي دخلها وسيطر عليها وأعلنها "دولة الخلافة الاسلامية"،عمليات تطهير عرقي وديني وثقافي بحق الآشوريين (سريان- كلدان) وعموم المسيحيين والمكونات الصغيرة الأخرى الغير اسلامية،مثل الايزيديين والشبك والصابئة، واستباح جميع ممتلكاتهم ومقدساتهم وكنوزهم الدينية والثقافية والحضارية النفيسة،وسبى نسائهم وبناتهم.

أخيراً: زعزعة الاستقرار في دول المنطقة وتحول بعضها الى "دول فاشلة"، أدخل (الوجود المسيحي) المتأصل والمتجذر في المشرق، في دائرة الخطر الكياني. فهذه الحروب الكارثية والفوضى الأمنية والسياسية التي تسببت بها، تنذر بحصول عمليات إبادة جماعية جديدة للمسيحيين ‘ إذا ما تركوا من غير حماية دولية وبدون ملاذات آمنة.

&

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات

[email protected]

&