يعجز اللسان والعقل عن وصف أو تعبير ما حدث منذ مئة عام، ويعجز الإنسان عن كتابة احرف يحاول بها فتح تاريخ أليم كتب بالدم، هذا الشعور الذي أحس به وأنا أكتب هذه الكلمات من ذاكرة أجدادي من تلك الصورة التي رأيتها في أعينهم، مما بقي في مخيلتي من سردهم لواقع محزن عاش معهم واستمر بعد مماتهم، ذاكرة ليس فيها إلا المواجع التي كانوا يرفضون التكلم عنها حتى مع ذاتهم، تلك الوجوه الصامته، تلك الملامح التي تحمل تعابير تحكي وعيون بها من الكلام مايكفي،هذا الشعب الذي كان ضحية اجرام ممنهج ومدبر مبني على انكار والغاء الآخر، اقتلاعه من جذوره، ترحيله وذبحه، سرقة ماضيه ودفعه إلى مستقبل مجهول مظلم يغير مصير شعب ودولة بأكمل وجه، هذا الشعب المقاوم الذي لم ينسى يوماً قضيته وانتمائه والمطالبة والدفاع عن حقوقه.

مئة عام وشياطين القرن ما زالوا مستمرين بإنكار ما فعل أجدادهم، مئة عام وشياطين الشرق يحاولون إخفاء الحقائق، ليس ذلك فقط، بل تزييف وتغيير التاريخ والواقع، فقد أثبتوا أن ليس لهم مثيل في هذا المجال، مارسوا أبشع المظالم التي يعجز اللسان عن وصفها. إهانة وسحق كرامة الإنسانية و إجرام بكل الأساليب الهمجية، المنافية لسلوكية البشر العاديين, واليوم التاريخ يعيد نفسه، هو الامتداد، يعود ويعيد نفسه كأن لا شيئ قد حصل، والعالم مازال مستمراً في النظر والمتابعة والصمت… مئة عام، مئة عام وهذا الشعب يحمل قضيته على أكتافه ويصارع الحياة لكي يبقى واقفاً شامخاً، بدون ملل وضعف، مؤمن بقضية ليست فقط قضيته لا بل قضية الإنسانية بكل ما تحمل الإنسانية من معاني.

إن الاعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية يشكل تحديا كبيرا للدولة التركية العثمانية، تحديا ذاتياً قبل أن يكون تحديا مع أي طرف آخر، تحديا بين دولة لفقت كل تلك الأكاذيب لتغطية ما فعلت وارتكبت من جرائم، وبين شعب شرب كل هذ النفاق المبرمج، بين شعب يحاول البحث عن الحقيقة ودولة مازالت تحاول التضليل، بين دولة تستمد قوتها من القتل وشعب يحاول التصالح مع ماضيه… بين النخبة والسلاطين، بين المثقفين والقوميين المتطرفين، بين الأحرار والحالمين بالعودة إلى زندقة السلاطين، بين الإنسان والجلاد.

الإنكار وعدم الاعتراف بالإبادة الجماعية التي أدت إلى موت همجي ووحشي، لأكثر من مليون ونصف مليون إنسان، شبح لا يزال يطارد اللاوعي الجماعي للشعب التركي بأكمله والسلطة بصورة مباشرة، شبح جعل السلطان يتخبط، وبدا عليه أنه غير قادر على إدارة العواقب التي من الممكن أن تكون وخيمة على كل الأصعدة.

في السنوات الأخيرة هناك ارتفاع متزايد وملحوظ في تركيا نفسها، تدعو إلى الاعتراف بالابادة الجماعية، تطالب بالاعتراف بتلك المجازر اللاإنسانية لأنه يمثل شكلا من أشكال التحرر للمجتمع التركي من حمل لم يعد يستطيع حمله، هذه الأصوات تبحث عن السلام النفسي والتصالح مع الذات، التصالح مع واقع مخزي، بينما في المقابل هناك تصعيد وقمع لهذه الأصوات المطالبة بالحقيقة من طرف السلطة في تركيا الحالية ووصفها بنفاق، وتحميل مسؤلية ما يحدث فيها لللوبي الأرمني.

مئة عام والإنسانية تحاول التغاضي عن ما حصل، مئة عام تغلبت فيها السياسة على الإنسانية، مئة عام أصبح الإنسان فيها سلعة تجارية، والمصالح أصبحت الأولوية، مئة عام مجزرة تلو مجزرة والحال مستمر بعلنية، مئة عام وشعوب بأكلمها تشتتت في جميع أنحاء العالم جراء محاولات الإبادة الجماعية، فلم يكونوا الأرمن الضحايا الوحيدين في هذه المجازر العرقية، لقد تعرضت شعوب أخرى أيضاً لهذه الفظاعة، الآراميين، الآشوريين، الكلدان، السريان واليونانيين، " الشعوب المسيحية في الشرق الأوسط "… هذا الامتداد يعيد ويكرر ما فعل قبل مئة عام بنفس العقلية والأساليب ذاتها، بتهجير قسري، بخطف واغتصاب، وقطع الرؤوس ونحرها في كل من العراق وسوريا.

مئة عام ولكن لم تقفل ولم تصنف القضية، لا بل بدأت مرحلتها الجديدة، مرحلة ستكون قاسية جدا على السلطات التركية، نضال جديد ستضع السلطان على حافة الهاوية، لم نعد نطالب بالإعتراف، ولن نطالب بالإعتذار، واللعبة تغيرت قوانينها، سنستعيد حقوقنا، وحقوق المليون ونصف المليون أرمني، وسيعود الحق إلى صاحبه الحقيقي، لكي ترقد الأرواح بسلام، لهؤلاك الأطفال والنساء والشيوخ، لهؤلاك الرجال الذين استشهدوا وهم يدافعون عن أرضهم وأعراضهم، نقول، لم نعد ضحايا لا بل طلاب حق.

تحية ومحبة وإخلاص للقبائل العربية في المنطقة، والشعوب السورية، العراقية، اللبنانية والمصرية التي ساعدت وأنقذت الناجين من الإبادة الجماعية الأرمنية، واحتضنتهم وأمنت لهم كل سبل الحياة، وأعتبرتهم جزء لا يتجزأ من نسيجها ومكون من مكوناتها، والكلام لا يكفي عن التعبير، راجين من الرب أن يعم السلام على هذه البلاد المباركة، ويحفظ أهلها وأن يستتب الأمن والأمان فيها.

&

[email protected]