من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد لفت نظري مقال، بالمجلة الأمريكية الإلكترونية، المتخصصة في استراتيجيات الجغرافية السياسية، يناقش مستقبل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. وفي تصوري بأنه من المهم أن يطلع القارئ العربي على الأفكار المطروحة في هذا المقال، لأن هذه الدولة ستلعب دورا مهما في قيادة عالم العولمة الجديد خلال القرن الحادي والعشرين، وقد تختلف دورها عن ما كانت عليه& في القرن العشرين، لدخول لاعبين جدد على الساحة الدولية بمستواها الحكومي والشعبي، بالإضافة لدور التكنولوجيات المستقبلية في عالم العولمة الذي نعيشه. وقد يأخذ الدور القيادي الأمريكي المستقبلي صيغة أكثر نضوجا، وربما أكثر حكمة أيضا، وذلك بسبب خبرتها المتراكمة خلال القرون الماضية، مع دورها القيادي خلال القرن الماضي، بالإضافة للتغيرات الديموغرافية التي ستعيشها خلال القرن الجاري. وقد يحتاج العرب أن يستفيدوا من التجربة اليابانية، في كيفية التعامل مع العقلية الأمريكية، لتجنب المجابهات الأيديولوجية الغير مجدية، والتوجه لتعاون برغماتي عملي ذكي، لتحقيق التنمية المستدامة لشعوب وطننا العربي، وخاصة بعد تجربة التفتت المرة التي عايشتها& المنطقة خلفا لما سمي ب"الربيع العربي".
وقد كتب المقال المفكر الاستراتيجي الامريكي، جورج فريدمان، وبعنوان، التعايش مع مفهوم الإمبراطورية الأمريكية، ويبدأ الكاتب مقاله بمقدمة يقول فيها: " تعتبر الإمبراطورية كلمة قبيحة، بالرجوع إلى سلوك ألكثير منها عبر التاريخ. وقد يكون ذلك معقولا، ولكن الإمبراطورية هي تعبير عن حالة ما، وفي الكثير من الاحيان لم يخطط لها، ونادرا ما كانت مقصودة. وهي واقع ناتج عن صعود كمية هائلة من عدم توازن القوى، وتنشأ لهدف ما، ولكنها نادرا ما تستمر. فمعظم إمبراطوريات التاريخ لم تخطط لذلك، ولتكتشف فعلا بأنها كذلك، والمشكلة حينما لا تكتشف هذه الحقيقة لفترة طويلة، تكون النتائج وخيمة، بل مأساوية."
ويعتقد الكاتب بأن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت إمبراطورية في عام 1945، مع أنها في الحرب الأسبانية الأمريكية سيطرت على الفلبين وكوبا، وبدأت تتصور بأنها إمبراطورية، ولكنها لم تكن كذلك في الواقع. فقد كان احتلال الفلبين وكوبا خيال إمبراطورية، وقد انتهى هذا الوهم مع الحرب العالمية الاولي، وما خلفتها من عزلة، وكساد اقتصادي كبير مدمر. ولكن برزت الولايات المتحدة بعد ذلك، كإمبراطورية حقيقية، نتيجة لمجموعة من الأحداث، ولم يكن وفق مؤامرة كبيرة، بل كانت نتيجة لظروف مرافقة جعلتها أكثر قوة. فقد أدت ديناميكية الحرب العالمية الثانية، لانهيار شبه الجزيرة الأوربية، واحتلالها من السوفيت والامريكيين، كما أدت نفس هذه الديناميكية لاحتلال اليابان، وحكمها المباشر من الولايات المتحدة. لتجد الولايات المتحدة فجأة بأنها إمبراطورية غير عادية، مع انها حاولت التخلي عن هذه المسئولية، وكانت هذه فعلا رغبة حقيقية، وليست دعاية إعلامية.
فقد كانت الولايات المتحدة أساسا مشروع حداثة مضادة للإمبريالية، والمفروض أن تتعارض مع أساسيات الإمبراطوريات، والأهم من ذلك بأن هذه الإمبراطورية استنزفت الموارد الأميركية، ولم تضف لها ثراء. فمع أن الحرب العالمية الثانية دمرت اليابان وأوروبا الغربية، ولكنها لم تحقق للولايات المتحدة مصالح اقتصادية مهمة. وفي الحقيقة تحقق الثراء الأمريكي بعد الحرب، وضمن اراضي الولايات المتحدة، وليس في البلدان التابعة للإمبراطورية.&&&
&ومع أن الولايات المتحدة لم تستطع بعد الحرب العالمية الأولى ترك الأمور كما هي، فقد دمرت الحرب الجميع، ولم تكن هناك طاقة باقية لمحاولة الهيمنة، ومع ذلك اقتنعت بترك أوروبا لدينمكيتها، بدون تدخل. بينما اختلفت الأمور بعد الحرب العالمية الثانية، فقد دمر الاتحاد السوفيتي، ولكن بقى قويا، ومهيمن على الشرق الأوربي، وكان خوف واشنطن بأن& يؤدي الغياب الأمريكي للهيمنة السوفيتية على جميع أوروبا، وكانت تلك هي معضلة الإدارة الأمريكية. كما كان هناك خوف بأن يؤدي اتحاد أوربي حقيقي، لظهور تحدي أخر للقوة الأمريكية. لذلك لم تستطع الولايات المتحدة أن تترك أوروبا، وفي نفس الوقت لم تنظر لنفسها كإمبراطورية، فسمحت بحكم ذاتي في منطقة غرب أوروبا، أكثر حرية من حكم السوفيت في شرقها. فمع أن الولايات المتحدة حافظت على قوتها العسكرية في أوربا الغربية، ولكنها نظمت الاقتصاد الأوربي، بل أسست وشاركت في نظام أوربي دفاعي. وإذا كان عادة جوهر السيادة القدرة على قرار دخول حرب، فذلك القرار لم يكن في لندن أو باريس أو وارسو، بل كان في موسكو وواشنطن.
لقد كانت جوهر الاستراتيجية الأمريكية الإحتواء، فهي لم تملك القدرة على احتلال الإتحاد السوفيتي، لذلك كانت استراتيجيتها الافتراضية مراقبتها. بينما كانت الاستراتيجية السوفيتية تخريب عملية الإحتواء، وذلك بدعم حركات التمرد، وخلق الاحلاف المضادة، لعرقلة جهود الإستراتيجية الأمريكية قدر الإمكان. وقد استفاد حلفاء السوفيت من تزويدهم الحاتمي بالأسلحة، بينما استفاد حلفاء الأمريكيين من تواجدهم في منطقة تجارية ديناميكية، توفر فرص الاستثمار والتكنولوجيا. وقد بدأت الولايات المتحدة في المراحل المبكرة من الحرب الباردة، تتصرف كإمبراطورية، حتى لو كان ذلك من غير وعي منها. وقد دعمت جغرافية الإمبراطورية الأمريكية بالعلاقات العسكرية، وبقوة العلاقات الاقتصادية، التي كانت في البدء غير اساسية للتجارة الأمريكية، ولكن مع نضوج نظامها، ارتفعت قيمة الاستثمارات بشدة، مع زيادة اهمية الاستيراد، والتصدير، وسوق العمالة. وكأي إمبراطورية حقيقة لا تبدأ بتصاميم عظيمة، أو حتى بالحلم بها،& بل تخلق الاستراتيجيات الضرورية حقائق اقتصادية، في بلد بعد بلد، حتى تعتمد أحد الصناعات الرئيسة على بلد ما. ومع نضوج الإمبراطوريات، ترتفع قيمتها الاقتصادية، وخاصة حينما لا تؤدي أحدا، فالإكراه مكلف، ويقلل من ثراء الإمبراطوريات. كما أن المستعمر المثالي، هو الذي ليس بمستعمر، بل أمة تستفيد من العلاقات الاقتصادية لسلطة الإمبراطورية، مع الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية. وهذه هي الطريقة التي انحدرت فيها الولايات المتحدة إلى موقعها كإمبراطورية، فأولا، كانت ثرية وقوية جدا، وثانيا، كانت تواجه عدوا قادر على تحديها عالميا وفي الكثير من الدول، وثالثا، استفادت من قوتها الاقتصادية لكي تدفع ببعض الدول لعلاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية، ورابعا، أصبحت هذه الدول مهمة لقطاعات عديدة من الاقتصاد الأمريكي.
وكانت معضلة الإمبراطورية الأمريكية هي أعباء الحرب الباردة، وخلال هذه الفترة، توقع الكثيرون من الولايات المتحدة القيام بالمبادرة في إدارة الحروب، وبمساعدة حلفائها، بشرط أن تتحمل العبء الرئيسي للحرب. فمثلا حينما بدأت حرب عاصفة الصحراء في عام 1991، برزت مبادئ الحرب الباردة، فقد قادت الولايات المتحدة الحرب، وبمساعدة هامشية من حلفاءها، كما قررت بعد الحادي عشر من سبتمبر محاربة افغانستان والعراق بنفس النموذج. فقد أخذت حروب ما بعد الحادي عشر من سبتمبر أساسياتها من الحرب العالمية الثانية، فقد ناقش المخططون لحرب العراق، الخطط السابقة لاحتلال اليابان والمانيا.
فمن الصعب أن تستطيع اية إمبراطورية تحمل الحكم المباشر. وحرب النازيين خير مثل لذلك، فقد حاولوا حكم بولندا مباشرة، كما احتلوا أراضي سوفيتية، وحاولوا حكم فرنسا، ولكنهم خسروا. بينما حكمت بريطانيا الهند بطبقة رقيقة من المسئولين والعساكر، مع مجموعة كبيرة من التجار، حاولوا تحقيق الثراء، وطبعا كان المثل البريطاني هو الأفضل. ففي الوقت الذي أنهك الالمان دولتهم بالحكم المباشر، نجح البريطانيون تحويل إمبراطوريتهم إلى شيء مهم لنظام العولمة، بينما دمر الالمان دولتهم وأعدائهم بالاحتلال والحكم المباشر.
وقد برزت الولايات المتحدة بعد عام 1992 كقوة عولمة توازن وحيدة، حيث كانت تملك القوى الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، وعلى أساس عولمي، وكانت، بل وبقت، قوية بشكل هائل. ولكن يختلف ذلك عن مفهوم القوة الوحيدة، فحينما نستمع للسياسيين يناقشون روسيا أو إيران أو اليمن نتصور بأن قوة امريكا لا حدود لها. والحقيقة بأنه هناك دائما محدودية للقوة، وتستمر الإمبراطوريات حينما تعرف محدودية قوتها وتحترمها. ففي اسيا وأوروبا، كان الأمريكيون قلة في العدد، ولكن عوضوا ذلك بأسلحة عسكرية هائلة، والتي دمر العدو قبل أن يهاجم قوتها العسكرية القليلة العدد. وقد تنجح هذه الاستراتيجية على المدى القصير، ولكنها تفشل على المدى الطويل، حيث يستطيع العدو في وطنه، تحمل الخسارة أكثر من الجيش الامريكي القليل العدد.
وطبعا أفضل الحروب هي الحروب الغير مباشرة، وهناك أشكال متعددة منها، لتبدأ أولا، بدعم القوى الوطنية الداخلية، وثانيا، بخلق نوع من توازن القوى بين الدول، والذي نلاحظه اليوم في الشرق الأوسط، حيث تتحرك الولايات المتحدة بين أربعة قوى، تركيا، السعودية، ايران، واسرائيل، فهي تدعم أحداها على الاخرى في عملية توازن دقيقة لمنع هيمنة احدها على الاخرين. فمثلا في العراق، تهاجم الطائرات الامريكية داعش، بالتوازي مع القوات الارضية الايرانية، بينما في اليمن، تدعم الولايات المتحدة السعودية، ضد الحوثيين الذين دربتهم إيران، وهذه هي جوهر استراتيجية الإمبراطورية. وكما يقول البريطانيون بأن ليس هناك أصدقاء أو أعداء دائمين، بل هناك مصالح دائمة.& فالأمثال القديمة عادة واقعية، وقد بدأت الولايات المتحدة في طريقها لفهم الدرس، مع أن الولايات المتحدة كانت أكثر سحرا، حينما حددت بالضبط أصدقائها وأعدائها، ولكن هذا الترف لا يمكن أن تتحمله الإمبراطوريات.
وها نحن اليوم نشاهد الولايات المتحدة تعيد توازن استراتيجيتها بتعلم فن توازن القوى. فالقوة العالمية لا يمكنها أن تعالج مباشرة عدة صراعات دولية، لتنهك بسرعة، ولكن، باستخدامها أدوات مختلفة، يمكنها أن تخلق توازن اقليمي وعولمي، وبدون التعدي على سيادة دول أخرى. ويكون الذكاء في خلق الولايات المتحدة "ظروف" تجعل الدول الأخرى تريد ما تريده لكي تحقق مصالحها. ومع أن المهمة صعبة، فتحتاج توفير حوافز اقتصادية لتعديل تصرف بعض الدول لتتبع مصالحها، بل قد تحتاج توفير المساعدات الاقتصادية والعسكرية والمستشارين للدول المترددة، وأخيرا ارسال قوات عسكرية هائلة.&&
&&&&&& وينهي الكاتب مقاله بالقول: "طبعا أنا أتحدث بقصد عن الولايات المتحدة، كإمبراطورية، مع علمي بأن هذا التعبير منفر، ولكن من المفيد أن نواجهه الحقيقة التي تعيشها الولايات المتحدة، ونكون صادقين مع أنفسنا. والأهم هو حينما تعتقد الولايات المتحدة بأنها إمبراطورية، ستتعلم درس مهم، وهو أنه ليس هناك شيء أكثر خطرا على الإمبراطورية من أن تستخدم قوتها بطريقة غبية. ولنتذكر بأنه حتى لو أن الولايات المتحدة لا تريد أن تكون إمبراطورية، فأن رغبتها لا تغير شيئا، فالظروف والتاريخ والجغرافية السياسية هي التي خلقت هذا الواقع.. وهنا علينا مواجهة حقيقتين: أولا، بأن الولايات المتحدة لا تستطيع التنازل عن قوتها، فليس هناك طريقة عملية لذلك، وثانيا، بمعرفة مدى قوتها، لا يمكنها تجنب المجابهات، حتى لو حاولت ذلك. وعادة تخاف الإمبراطوريات، وأحيانا تحترم، ولكنها لم تحب أبدا من باقي العالم، والتظاهر بأنها ليست إمبراطورية لن يخدع أحدا. كما أن عملية التوازن اليوم في منطقة الشرق الأوسط تمثل أعادة توازن القوى للإستراتيجية الأمريكية، ومع أنها حتى الان خرقاء ولم تدرس جيدا، ولكنها حقيقة واقعة، وستقلل مع الوقت فكرة باقي العالم عنها، بأنها قوية وآتية لإنقاذهم. فالولايات المتحدة لن تتدخل مباشرة بعد اليوم، بل ستعالج الأمور بحيث تفيد بلد، واحيانا البلد الأخر. وهذه حقيقة ما نراه اليوم في الشرق الأوسط، من اتفاقية نووية مع ايران، لتوازي التعاون مع إيران في العراق، وحتى مساعدة السعودية ضد الحوثين، وكلاء إيران، في اليمن."
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستحاول الولايات المتحدة أن تلعب في الشرق الأوسط دورا مشابها لدورها في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، لتخلق السلام والازدهار في منطقة انهكت إمكانيات ثرائها الإرهاب القاعدي والتوحش الداعشي؟ ولنا لقاء.&&&&

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان