مرة أخرى، وربما مرات، نعود إلى ما كان الغرب اديمقراطي يَبهرنا به من قيم الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وقد تبين لنا، بالأدلة الباهرة والوقائع المعاشة، أنها موجودة وقائمة وراسخة هناك، وتلتزم باحترامها وعدم تجاوزها الحكومات والأحزاب، وحتى الشركات والمؤسسات غير الحكومية، ولكن لمواطنيهم وحدهم. وفي حالات معينة هي لمواطنيها الأصليين وليس للمتجنسين من أبناء الهجرات الخارجية.&

ولكن دول الحرية والديمقراطية والعدالة، أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، تحديدا، لا يهمها، دائما، أن تسود الحرية والديمقراطية والعدالة خارج حدودها أو لا تسود. وفي أحيان عديدة تغمض عيونها عن انتهاك تلك القيم في سجون الحكام أو بالذبح بالسكاكين أو بصواريخ الجيوش النظامية، بل إنها تفرح وتصفق لمن يدوس عليها ويقمعها حين تقتضي ذلك مصالحُها السياسية والاقتصادية الحيوية العليا.&

وكثيرا ما قدمت حكومات غربية عريقة في الحرية والديمقراطية والعدالة حماية ورعاية لقتلة ذباحين، أو لحكام مختلسين هاربين لفظتهم شعوبهم، بمزاعم وذرائع مختلفة لتبرير هذا النفاق والانحراف.

والغريب أن هذه الانتهازية الأخلاقية والسياسية لا توجد لدى الحكومات وحدها، بل هي متوفرة لدى المواطن الغربي نفسه. فهو في الوقت الذي يسميت فيه في التمسك بحرياته كاملة والدفاع عنها لا يتورع عن إعطاء صوته في الانتخابات، بحماس وثبات، لحكام يعرف جيدا، ويرى ويسمع ويلمس لمس اليد، أنهم، خارج حدود بلادهم، قتلة وجزارون وممولون للإرهاب ومصاصو دماء شعوب. ولا يعجز هو أيضا عن إيجاد المبررات، والتذرع بأولوية المصالح الوطنية العليا على المباديء والأخلاق.&

تقوم الدنيا ولا تقعد إذا تنصت جهاز أمن أو مخابرات على هاتف مواطن دون أمر من قضاء. وتلتهب أجهزة الإعلام جميعها حين يقتل شرطيٌ مواطنا، حتى لو بالخطأ غير المقصود. وتتشاتم الحكومة والمعارضة، وتتشابك أيدي نواب البرلمان، بسبب جريمة اختلاس بطلها وزير أو نائب أو مدير، حتى لو كان المبلغ المختلس لا يتعدى الألوف. أما خارج بلادهم فهم يرفعون سيوف الحريات وحقوق الإنسان، في زمن، ويغمدونها في زمن آخر. يُسقطون بها (س)، وينصرون بها (ص). لا تصحو حميتهم وغيرتهم على دماء الأبرياء إلا حين يُختطف أو يُذبح واحد من أبنائهم. عندها ودون انتظار، تغير طائراتهم غاضبة مجلجلة هادرة تصب أطنانا من القنابل الحارقة على مواقع القاتل أو المختطِف ومخازن سلاحه، دفاعا عن العدالة وانتقاما للمبادي الإنسانية السامية.&

ولكنهم يتشاورون، ويتبادلون الأفكار، ويتدارسون الحلول، ويخرجون من مؤتمر ليدخلوا في مؤتمر، ومن اجتماع إلى اجتماع، أياما وأسابيع وشهورا وسنوات، ودماءُ الرجال والنساء والشيوخ والأطفال تتدفق، في هنا وهناك، حول العالم، وأشلاء القتلى، بمئات الآلاف، تتبعثر بين أنقاض البيوت المهدمة، إذا كانت المصالح تريد ذلك.

يقتلون داعشيين في (عين العرب)، وعلى حدود أربيل، وفي الموصل، وتكريت، والرمادي، بلا هوادة، بأطنان القذائف والصواريخ، ثم يتركونهم في سوريا وليبيا يصولون ويجولون، ويتسلحون ويتمولون، بحرية وأمان.

يعمَـوْن تماما عما يرتكب فرسان مليشات الحشد الشعبي من ذبح وحرق وتهجير ونهب في المدن التي يدخلونها بعد أن تخرج منها داعش، وتصمت أجهزة إعلامهم عنها، إلا قليلا يتناثر هنا وهناك في بعض أجهزة الإعلام الغربية، لرفع العتب.

إنهم يسكتون عما ترتكبه إيران، علنا، في العراق وسوريا واليمن والبحرين وفلسطين ولبنان، ومع سبق الإصرار والترصد، من عبث بأمن الشعوب، وتخريب لحياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية، كدولة محتلة وغازية بمفهوم القانون الدولي. بحجج وذرائع ليس لها نهاية.

والأغرب من الغرابة صمتُهم عما يرتكبه نظام الملالي بأهل إيران نفسها من تكميم للأفواه، وتقطيع للأيدي والألسنة والرقاب، بما لا يختلف عما تفعله داعش من جرائم وموبقات.

وفي سوريا، من أربع سنوات، تتساقط البراميل المتفجرة، ويستخدم بشار كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا على المدنيين، وترسل إيران مقاتلين من حرسها الثوري، ومليشات لبنانية وعراقية تابعة لها لمؤازرة الحاكم الذي صنفه أغلب رؤساء أوربا وأمريكا، والأمم المتحدة، بأنه فاقد لصفته (البشرية)، وقادة الدول الغربية القادرة على ردعه وعقابه يرون ويسمعون ويطنشون.

وفي ليبيا، وكل أخبارها تصلهم بانتظام يوما بيوم، وساعة بساعة، تموت الناس وتتمزق الدولة وتتحول ليبيا إلى ماكنة لتفريخ القتلة والجزارين، ولا يتحركون. ويصرون على ضرورة الحوار، والحل السياسي، لإنهاء (المشكلة). وكأن الذي حدث في ليبيا مجرد اصطدام سيارة بأخرى، أو عراك بين عابريْ سبيل. بعبارة أوضح. إنهم يريدون منا أن نستمر في الجدل العقيم إلى يوم القيامة، هل الدجاجة من البيضة، أم البيضة من الدجاجة؟!.&

إن مناسبة هذا الكلام المحزن هو (الفزعة) الساخنة الغربية لنجدة ضحايا زلزال النيبال. تابعوا معي قنوات الغرب الديمقراطي. راقبوا معي CNN وBBC وتغطياتهما المستمرة المتلاحقة لتفاصيل الكارثة.&

طبعا لا يمكن لأي منا إلا أن يحزن جدا لهذه المصيبة وأمثالها، أينما حدثت، ولأي شعب، وفي أية بقعة أرض في هذه الدنيا الواسعة. ولكن زلزال النيبال جاء ليقول لشعوبنا، أكثر من غيرها من الشعوب المبتلاة بالكوارث، إن دول الغرب الديمقراطي منافقة من رأسها إلى أخمص قدميها، حين نكتشف أن مجمل ضحايا الزلزال ألفان وخمسمئة إنسان، فقط، ومجموع القتلى المدنيين غير المقاتلين في سوريا زاد على مئتي ألف، وفي العراق قدر بمئات الأولوف، وفي اليمن بعشرات الألوف، وفي ليبيا بالألوف. أما الأسر الآمنة التي تهرب من مواقع جرائم العصابات وجيوش الحكام القتلة ومليشياتهم، وتهيم ضائعة بأطفالها ونسائها وشيوخها في البراري والأودية والجبال فمئات الألوف، والعالم الغربي الديمقراطي، والأمم المتحدة، و BBC وCNN ترى وتسمع ولا تتكلم.

فيا لرقة قلوب الزعماء والأحزاب وهم يتسارعون إلى تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة لضحايا النيبال، وقنواتهم تتسابق لتصوير هذه المساعدات ومتابعة جهود الإنقاذ، وعلى مدار الساعة. إنها شهامة بحجم الفضيحة، أو بطعم الصفاقة. ولله في خلقه شؤون.

&