يقول الطبيب والمفكر المرحوم "جورج حنا" الحائز على ميدالية السلم المذهبة: "إن كارثة الفقر التي تفتعلها أنظمة سياسية وإجتماعية غير عادلة، ويسهر عليها حكام وحكومات وأصحاب نفوذ. إن هذه الكارثة تجلب معها كارثة ثانية، وأعني بها "كارثة المساعدات الإحسانية" التي تذل الفقير أكثر مما يذله الفقر". ويقول أيضا: "لست أحسب أن بلدا في الدنيا فيه من الجمعيات الخيرية بقدر ما في بلداننا نحن. في رأيي أن كثرة هذه الجمعيات في بلد ما تعطي صورة عن مدى تقصير أي حكومة تجاه شعبها".

الفقر ليس مشيئة إلهية ولا كارثة طبيعية كما يتخيل للبسطاء من عامة الناس، وكما يعظ الوعاظ السطحيين وفقهاء السلاطين. إنما الفقر مأساة إجتماعية وأخلاقية، منشؤها أنظمة إقتصادية وإجتماعية غير عادلة، وحكومات تهضم حقوق شعوبها، وشعوب مستسلمة خانعة لا تحاسب ولا تطالب بحقوقها. ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وصحبه) وصف الفقر بالكفر، فقال: "كاد الفقر أن يكون كفرا". وقال الإمام علي (عليه السلام): "لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته".

وفقا لإحصائيات البنك الدولي لعام 2013م، يبلغ سكان العالم العربي حوالي 345 مليون شخص، ويبلغ إجمالي الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة حوالي ترليون وأربعمائة وتسعون مليار دولار أمريكي، إلا أن نصيب الفرد من هذا الناتج المحلي لا يزيد عن حوالي 3500 دولار أمريكي في السنة. وأن هناك حوالي 96.6 مليون شخص في الدول العربية يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يعادل 28% من مجموع السكان. وأنه لا يزال واحد من خمسة من العرب يقل دخله عن دولارين في اليوم. وبسبب الفقر، لا يخلو بلد عربي من جرائم القتل والسرقة والسطو والإحتيال والرشوة والإعتداء على المال العام والإتجار بالمخدرات والرقيق الأبيض، وكلها جرائم تهدد الأمن الإجتماعي لكل بلد عربي وهي في إزدياد مطرد سنة بعد سنة، وخصوصا في الدول العربية التي تعاني من الحروب الأهلية.

أما الفساد، فهو إحدى القضايا التي تحتل إهتمام المواطنين في العالم العربي. وقد عرفت "إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003م" مفهوم الفساد من خلال الإشارة إلى الحالات التي يترجم فيها الفساد إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع، وهي: الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص، والإختلاس في القطاعين العام والخاص، والمتاجرة في النفوذ، وإساءة إستغلال الوظيفة، والإثراء غير المشروع، وغسل العوائد المالية الناتجة من أعمال غير شرعية، وإخفاء الممتلكات المتأتية من جرائم الفساد، وإعاقة العدالة فيما يتعلق بهذه الجرائم، بالإضافة إلى أفعال المشاركة والشروع بكل ما سبق ذكره".

ومما يعقد الوضع في معالجة هذا الداء العضال في العالم العربي هو غياب الأطر القانونية والمؤسسية التي يمكن من خلالها تطويق هذه الظاهرة والبدء في معالجتها بطريقة فعالة. فمؤشرات الفساد في العالم العربي تعتبر من الأعلى في العالم بحسب الشفافية الدولية. يضاف إلى هذا قناعة المواطن العربي وإدراكه المتزايد بأن الفساد مستشر في الحكومات والمؤسسات العربية، وهو ما يؤكد بطريقة لا تقبل الشك أن البيئة في الدول العربية بيئة ينتشر فيها الفساد، وهي مهيأة لإنتشار أوسع لهذه الظاهرة الخبيثة في ظل التغييب المستمر والمتعمد للشفافية والمساءلة وحكم القانون.

العالم العربي لا يفتقر إلى الموارد الطبيعية، فالبلدان العربية غير النفطية لديها ثروات طبيعية أخرى لا تقل أهمية عن النفط، كالمعادن والزراعة والثروة الحيوانية والسمكية، والمواقع الأثرية والسواحل الجميلة والجو المعتدل الذي يؤسس لصناعة السياحة التي إذا أحسن إدارتها تدر دخلا كبيرا وتوفر فرص عمل كثيرة. وعليه، فالفقر ناتج عن غياب العدالة وسوء توزيع الثروات، والفساد ناتج عن غياب القانون والمحاسبة والشفافية.

إن معالجة كل من الفقر والفساد يحتاجان إلى عملية واسعة لإرساء قواعد الحكم الرشيد، وترسيخ نظم الشفافية والمساءلة والمحاسبة. وهذا بدوره يتطلب وجود دول قوية في تكوينها ومؤسساتها، واثقة من شرعيتها المستمدة من رضا شعوبها، قادرة على سن تشريعات عادلة وتنفيذها في إطار حكم القانون، ومن خلال أجهزة قضائية وتنفيذية خاضعة للمساءلة والمحاسبة، وقابلة للتغيير الديمقراطي السليم. &