لو ارغمنا انفسنا على التماهي مع فكرة امكانية الوصول الى توافق سياسي داخلي في العراق متزامنا مع تسويات اقليمية ودولية تفضي بالنتيجة الى التاثير على تشكيل الفضاء الجغرافي – السياسي لداعش، فان مثل هذه الامكانية ستعني بالضرورة تقلص مساحة التاثير والنفوذ التي يمارسها هذا التنظيم ليس في اطار الجغرافيا التي يهمين عليها في المدن والبلدات العراقية فحسب، بل وايضا في تراجع تاثيره الضاغط سياسيا على الحكومة التي نتخيل بانها قد استوعبت الدرس الهوياتي متاخرا فيما بعد هذه الحقبة الدامية من الخسائر والانكسارات ذات التركة البشرية والمادية الهائلة.&

مثل هذه الفرضية لازالت مُدخلات نجاحها تترنح مابين قوة وضعف العوامل التي تحكم مسار تطورها المستقبلي ذي العلاقة الوثيقة بالتطورات الميدانية التي يبدو بانها لازالت بعد لم تخرج عن موضوعة الصراع الاقليمي, مضافا لها الدور الدولي الذي يعمق من هوة التنافر بين الاقطاب الحاكمة لفكرة الانفجار الهوياتي في المنطقة. ولكن تبقى كل الاحتمالات واردة في ميدان السياسة خاصة وان الارضية الهشة التي تسير عليها سياسات الدول الاقليمية هذه توحي بانها في النهاية لابد وان ترضخ لمنطق الجغرافيا في ضرورة البحث عن لحظة تأمل عقلانية لادراك ما تتنبأ به الخرائط من تحولات قادمة في كل دول المنطقة المجاورة للعراق في حال استمر اندلاع الحريق الهوياتي. في حين سيقود السير بالاتجاه المعاكس بالضرورة الى تعرض الاضعف منها الى عاصفة هوياتية ستحول وحدتها وتماسكها المضطرب الى ذكرى عابرة في صفحات التاريخ.&

تدرك كل هذه القوى ان الهوية العراقية وتفاعلاتها السياسية والمكانية لم تعد قضية داخلية بحتة. ولعل هذا الادراك ياتي من خلال تفهم حقائق الجيوبولتيك العراقي الذي يمكن تلمس البعض من اهم ملامحه من خلال الحقيقة التي تشير الى ان العراق ومنذ لحظة تحوله الرسمي الى كيان سياسي في المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى والاعلان عن بداية عهد جديد خال من شرور الامبراطورية العثمانية، قد بدات حدوده الداخلية والخارجية تُرسم بطريقة تتوافق ومصالح القوى المنتصرة التي اتخذت من الارض العراقية ميدانا لممارسة شكل اخر من الشرور الذي لم يسلم منه المجتمع العراقي المبتلى في بنيته الهوياتية. حيث رُسمت الجغرافيا العراقية من دون ان يؤخذ بنظر الاعتبار فكرة التصادم الهوياتي المستترة في عمق البنية السكانية العراقية المنقسمة ثقافيا، دينيا – مذهبيا وقوميا.&

لذلك كان هذا الصدع يشكل له مسارات مهمة في توجه الجغرافيا السياسية العراقية حتى اصبح اكثر حدة ووضوحا في فترة الازمات. وهي فترة غير منتهية في تاريخ هذا البلد المليء بالثورات والانقلابات وكذلك بالاحتلال. فقد واجه الملك فيصل الاول على سبيل المثال هذه المعضلة في فترة حكمه وعرف بانها ستقود يوما ما الى العصف بهذه الجغرافيا الهشة التي بنيت على اسس ضعيفة غير مترابطة حيث قال يوما في تعبير عن حالة اليأس من التوصل الى تسوية هوياتية داخليا ما يلي " من كل قلبي المليء بالحزن يتوجب علي القول بأنني أؤمن بانه لا يوجد شعب عراقي في العراق فهنالك فقط مجموعات متنوعة بلا مشاعر وطنية توحدها... ".&

لم تتوقف يوما استمرارية صواب حدة هذه النظرة المغدقة في العقلانية لرؤية ما ينتظر العراق في ظل هذه الحتمية التي يبدو بانها اصبحت مصدر بلاء مجتمعي غير منقطع. فعندما حصلت الانقلابات التي انهت النظام الملكي، وجدت السلطات المتعاقبة لاحقا نفسها مباشرة امام تحد وجودي لاستمرار دورها في السلطة. لذلك عملت مثلا حكومة البعث منذ 1968 على السير مع تيار المد العروبي وفرض ايديولوجيته على المجتمع بطريقة قادت لاحقا الى محاولة تعريب القوميات الاخرى التي لم يُسمح لها في افضل الاحوال بان تمارس دورها بعيدا عن منظومة الاملاءات الهوياتية السلطوية، التي كانت ترى مثلا في الحرب العراقية – الايرانية ميدانا جديدا يمكن له ان يُستغل لاعادة تشكيل الهوية العراقية قسريا من خلال فرض مكنونات السلطة على هذه الهوية التي اريد عبر آليات العنف الغاء جذورها التاريخية الراسخة في وجدان نطاقاتها السكانية المتباينة مكانيا والمتصادمة مع اديولوجية التشكيل الهوياتي للنخبة الحاكمة.&

جاءت لحظة غزو الكويت وما تلاها من تطورات ميدانية لتكشف عن عمق زيف هذه القناعة التي تكونت في اروقة السلطة فقد عاد شبح التمايز الهوياتي ليطل من جديد على المدن العراقية في لحظة تعبير عن لغة ثأرية انتقاما من سلطة مارست القمع والقتل باسم التشكيل الهوياتي الجمعي للامة العراقية. ليستمر الغليان الهوياتي فيما بعد وصولا الى لحظة الانفجار العنيفة التي ولدتها شرارة الاحتلال الامريكي.&

هذا التحول المهم في جيوبولتيك المنطقة اعاد من جديد انطلاق الشرور من قمقمها الذي سجنت فيه لعقود طويلة من الزمن. تشظت الهويات وتصادمت وشكلت لها نطاقاتها المتمايزة عن بعضها البعض وبات الشعور بعدم الانتماء الى هوية جمعية هو الامر الوحيد السائد في البنية الهوياتية العراقية المعاصرة. الشعارات و الفضاءات الحضرية كلها تحولت الى دلالات ترسخ فكرة الهوية السكانية المختلفة عن الاخر الذي باتت جدران مدينته والصور التي ترفع فيها و الاعلام التي ترفرف على بناياتها هي الاخرى مصدرا من مصادر الرد الهوياتي الممزوج بممارسة سياسية متضادة للتعبير عن صراع الوجود الهوياتي المتمدد مكانيا باتجاه قوى الدعم الاقليمي.&

ان حصل هذا الزلزال في اطار المدن الكبرى ذات المشاهد الحضرية – الهوياتية المجزأة، فانه تحول لاحقا وبشكل تدريجي الى مغازلة لفكرة الاقاليم التي طرحت من قبل بايدن باسلوب هوياتي بحت بهدف تمزيق العراق بحجة الحيلولة دون تصادم هذه الاختلافات على ارض واحدة انكشفت فيها بوضوح فكرة الفشل الحكومي في ادارة ازمتها المتجذرة. وهو توجه زادت حدته بعد هيمنة داعش على المناطق السنية التي باتت اكثر عزلة عن باقي العراق وتخضع بقسوة الى اعادة تشكيل الجغرافيا الثقافية فيها بطريقة ستسرع من فكرة الانعزال الهوياتي داخل هذا البلد.&

لذا يتصور العديد من المهتمين بالشان العراقي ان هذا المشهد بكل ما فيه من تفاصيل سيكون ملهما بشكل مناسب للمتخصصين في الجغرافيا – السياسية لرسم ملامح تطوره على الخريطة العراقية التي يبدو بانها في حال تم النجاح في مسعى سحب داعش منها، ستشهد تحولا لامناص منه ذي علاقة مباشرة بالتساؤل الخاص بكيفية اعادة تشكيل الهوية العراقية التي بات موضوعها ملازما لفكرة اعادة النظر في كيفية تفعيل الادوار الحكومية واثرها في رسم معالم المكان وهويته المجتمعية التي ستحدد فيما بعد ان كان العراق فعليا سيبقى موحدا ام انه مقبل لاحقا على العودة مجددا الى ذات الزمن الذي انتج داعش والذي سيفضي لا محالة الى تطاير شظايا الانقسام الجغرافي باتجاهات متعددة. في هذا الصدد يقول احد الباحثين المهتمين بالتاريخ المعاصر للعراق Phebe Marr فيبي مار " ان قضية الهوية التي تتمثل بحصول العراقيين على انتماء هوياتي يتفقون عليه جميعا لكي تبقى الدولة موحدة تعد من بين القضايا الجدية... وهو ما يشكل مصدرا مهما من مصادر التحدي للرؤية الجديدة للعراق. ووفقا لكل المقاييس يعد ذلك نضالا بالضد من حقائق الحياة في هذا البلد حيث أصبحت المجموعات البشرية فيه أكثر انعزالا عن بعضها البعض ".&
&

أكاديمي عراقي&

[email protected]&