تناولت في حلقة سابقة من سلسلة مقالات تحت هذا العنوان، مظاهر الضعف والترهل التي تعانيها إيران في الداخل وتنخر في جسدها بحيث يصعب مع هذه المظاهر الادعاء بأنها قوة اقليمية فوق العادة، او أنها تفوق في قدرات قوتها الشاملة بعض الدول الاقليمية الأخرى. واستمرارا لفكرة رصد مظاهر الازدواجية أو مايمكن تسميته "الشيزوفرينيا" السياسية التي يعانيها النظام الايراني، على مستوى العلاقة مع التنظيمات والوكلاء الاقليميين ممن يلعبون دور المشاغب او المتمرد الاقليمي لمصلحة النظام الايراني، وفي مقدمة هؤلاء حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي اليمنية والميلشيات الشيعية في العراق وحركات وتنظيمات تتخذ من المقاومة الفلسطينية شعارا لها.
الخطاب السياسي الايراني يتحدث عن أن الدعم المالي والعسكري والخططي الايراني للتنظيمات والحركات في العالم العربي يستهدف مناوئة إسرائيل، والدفاع عن المقدسات الفلسطينية، فهكذا تتحدث طهران ليل نهار، ولكن المتابع لتطورات الأحداث يدرك أن هذا الدعم لم ينتج سوى انشقاقات هائلة وتحركات انفصالية في جميع الدول التي تقف إيران وراء فصائل سياسية فيها، وهذا السيناريو الانقسامي تكرر في لبنان والاراضي الفلسطينية والعراق واليمن، وغيرها من المناطق التي تمتلك إيران أذرع فاعلة فيها.
والواضح من ذلك أن شعارات المقاومة وغيرها ليست سوى ستار سياسي تخفي ورائها مزاعم التدخل الايراني الناعم، الذي يستغل التعاطف الشعبي تجاه القضية القومية المصيرية للتغلغل في عمق الوعي الجمعي تحت لافتات المقاومة والممانعة وغير ذلك. ولكن الحقيقة أن هذه التنظيمات والتيارات الحركات والميلشيات ليست سوى واجهة لمشروع غيران التوسعي الطائفي على مستوى الاقليم.
الإشكالية أن الحركات الاسلامية سنية المذهب إما أنها لا تمتلك من النضج والخبرة السياسية مايؤهلها لفهم حقيقة المشروع الصفوي الايراني للتمدد إقليميا، فتنخدع في الشعارات والخطاب السياسي الإيراني وتتحول إلى اداة او ذراع لتنفيذ هذا المشروع الخطر، أو أن هذه الحركات والتنظيمات تدرك طبيعة المشروع الإيراني وأخطاره ولكنها تميل إلى الاستفادة مما تعرضه طهران من مزايا تمويلية على حساب المصالح الاستراتيجية الوطنية للدول والشعوب العربية. وأي كان الدافع وراء تحالف بعض الحركات والتنظيمات السنية مع إيران، فإن هناك تحذيرات كثيرة من استغلال إيران لهذه التحالفات في نشر المذهب الشيعي وبث التشيع في مناطق سنية مع مايعنيه ذلك من أخطار وتحولات تنذر بتفاقم الصراعات الطائفية في المنطقة. وهذا النموذج الجلي يتردد في عشرات المقالات والتقارير المنشورة
ماتفعله إيران مع حركة حماس هو ماتفعله مع الميلشيات الشيعية في العراق، حيث لعبت إيران الدور الأخطر في تفكيك وحدة العراق المذهبية وتأليب طوائفه ضد بعضها البعض، وووظفت الورقة الطائفية في القضاء على وحدة العراق وتماسك شعبه لتقضي بذلك على خطر استراتيجي ظل طيلة عقود يمثل لها هاجسا استراتيجيا مؤرقا. ربما يظن شيعة العراق أن إيران تقف سندا لهم ومدافعا عن حقوقهم ضد إخوانهم السنة العراقيين، ولكن الحقيقة هي أن طهران استغلت العامل الديني لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في العراق!.
الشىء ذاته تفعله طهران في سوريا، فوقوف إيران إلى جانب الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد لا تندرج واقعيا ضمن الخانة المذهبية بل هي أيضا من باب المصالحية والبراجماتية البحتة، فسوريا هي بوابة إيران للنفوذ الاقليمي ومن خلالها تستطيع النفاذ إلى لبنان والحفاظ على نفوذها وما يمثله هذا النفوذ من موطىء قدم على البحر المتوسط ومناكفة القوى الاقليمية وتهديد أمن اسرائيل ولو ظاهريا لابتزاز الولايات المتحدة الامريكية والقوى الكبرى عبر هذه الورقة.
ربما يرى البعض أن في هذه الرؤية نوع من التحامل على إيران، وأن نظامها يدافع عن مصالح المسلمين والاسلام ليس أكثر ولا أقل، هنا أذكر الجميع بموقف طهران المعروف تجاه قضية اقليم ناجورنوا كاراباخ، حيث تساند إيران أرمينيا في هذه القضية المصيرية بالنسبة للعلاقات الأذرية ـ الأرمينية، ومعروف أن أذربيجان غالبتيها مسلمون، والأمر لا يقتصر على هذا المثال الحي بغض النظر عن موقفنا الشخصي من هذه الصراعات ذات الأبعاد المتعددة، فإيران تساند روسيا في مواجهة ماتصفه موسكو بالتمرد الشيشاني، أو مطالبة اقليم الشيشان المسلم بالانفصال عن الاتحاد الروسي!!.
المسألة إذا هي مصالح سياسية لا دين فيها ومذاهب كما تزعم إيران وتخدع المتحالفين معها من ذوي الانتماءات الطائفية والمذهبية في البلاد العربية.
هذه هي إيران التي ترواغ بشعارات دينية فيما لا تسعى سوى إلى تحقيق مشروعها التوسعي الصفوي ذي الصبغة القومية الفارسية.
&