يلوح في الأفق تغيير إيجابي بالوضع السياسي الراكد بإقليم كردستان منذ أكثر من عقدين من الزمن، حين تقاسم الحزبان الإتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني إدارة السلطة بينهما مناصفة حسب نتائج الإنتخابات البرلمانية التي جرت عام 1992، حيث إستأثرا بإدارة الحكم بالإقليم في ظل غياب كامل للمعارضة الى حين سقوط نظام صدام عام 2003 وما تلاها من تطورات سياسية هامة في العراق عموما وفي كردستان على وجه الخصوص بنشوء حركة التغيير المعارضة بقيادة نوشيروان مصطفى وتحول الأحزاب الإسلامية الكردية الى جبهة المعارضة المدنية الى جنب هذه الحركة..

إستغل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده رئيس الإقليم الحالي مسعود بارزاني هطول مليارات الدولارات سنويا من بغداد كحصة للإقليم ليسارع بتوقيع إتفاق إستراتيجي مع الإتحاد الوطني كان هدفه المعلن هو تقاسم السلطة والثروة بينهما، والهدف الخفي نخر شريكه بفساد مالي وإداري لم يألفه الأتحاد الوطني طوال سنوات نضاله الوطني بصفوف المعارضة ضد الدكتاتورية والتفرد.

فمن خلال تحكمه بالموارد المتأتية من حصة كردستان بموزانة الدولة والتي بلغت مليارات الدولارات، سعى حزب بارزاني الى تكريس سلطته الفردية بإقليم كردستان، خاصة بعد أن إنشغل حليفه الإتحاد الوطني لسنوات طويلة بصراعاته الداخلية وبتداعيات خروج نوشيروان مصطفى من الحزب وتأسيسه لحركة التغيير المعارضة، كل هذه التطورات ساعدت حزب بارزاني على إحكام قبضته التفردية على إدارة السلطة وإظهار نفسه كحزب قائد بكردستان.

كان الإعتداء الوقح لنائبين من حزب بارزاني على النائب علي حمة صالح من كتلة التغيير إيذانا بنهاية وشيكة لتلك السلطة الفردية من حزب بارزاني، حيث شكل ذلك الإعتداء فرصة ثمينة أمام الأحزاب الأربعة لوضع حد لعنجهية وصلافة هذا الحزب. فعلى إثر الإعتداء صدر عنهم بيان إدانة شديد اللهجة ضد هذا الإعتداء الذي إعتبروه إعتداءا على هيبة وقدسية البرلمان، وكان هذا هو الموقف الأول من الأحزاب الأربعة للوقوف بوجه تصرفات حزب بارزاني.جر ذلك البيان الأحزاب الأربعة الى المزيد من المواقف المشتركة لاحقا.

ففي أثناء مناقشة قانون صندوق الموارد النفطية المعروض على البرلمان، كان حزب بارزاني يدعو الى ربط هذا الصندوق بمجلس النفط والغاز والذي يحتل فيه الأكثرية بواقع ثلاثة أعضاء (رئيس الحكومة ووزير الموارد ووزير التخطيط) مقابل عضو واحد من الإتحاد الوطني (نائب رئيس الحكومة) وعضو آخر من حركة التغيير(وزير المالية) لكن الأحزاب الأربعة وعبر كتلها البرلمانية أجهضت هذه المحاولة وأقرت ربط الصندوق برئاسة الحكومة حصرا.

نجحت الكتل البرلمانية الأربعة أيضا بتمرير قانون هيئة النزاهة، فلأول مرة في تاريخ كردستان يعارض البرلمان تعديلا طلبه رئيس الإقليم على قانون هيئة النزاهة حين رفض التوقيع على القانون طالبا إستثناء الرئاسات الثلاث من رقابة هيئة النزاهة، لكن البرلمان وبالأكثرية رفض طلب رئيس الإقليم ومرر القانون كما تم إقراره سابقا..

هذه المواقف المشتركة تغري نواب الأحزاب الأربعة الى المزيد من التنسيق والتعاون والتوافق فيما بينهم للوقوف بوجه حزب بارزاني، فبحسب مصدر كردي أكد لموقع" شاربريس" الكردي أن الكتل البرلمانية للأحزاب الرئيسية الأربعة المشاركة بالحكومة تشهد حاليا نوعا من التعاون والتوافق الكامل لإتخاذ المواقف الموحدة،وأن أعضاء تلك الكتل يرون بأنه يفترض أن يستمر هذا التوافق والإنسجام لما يتعلق بإقرار جميع القوانين القادمة الى البرلمان بما فيها الدستور، وأن معظم هؤلاء النواب يستعدون من الآن لتبادل الآراء والأفكار وتنسيق المواقف بشأن التعديلات الدستورية القادمة، وكذلك بتعديل قانون رئاسة الإقليم الذي يجيز لمسعود بارزاني بتمديد ولايته لأربع سنوات أخرى".

هذه التطورات المثيرة وغيرها أقلقت قيادة حزب بارزاني خاصة التقارب الحاصل بين الإتحاد الوطني وحركة التغيير والذي إتخذ أشكالا عدة منها، تفويض رئيس كتلة التغيير بالبرلمان من قبل كتلة الإتحاد الوطني لينوب عن رئيس كتلة الإتحاد في إجتماع رئاسة البرلمان مع رؤوساء الكتل البرلمانية، طبعا هذا التقارب الحاصل بين الإتحاد الوطني وحركة التغيير يثير بالغ القلق لدى حزب بارزاني الذي لعب لسنوات طويلة على هذه ورقة الخلافات بين الحزبين.

وتجدر الإشارة الى تصريح أدلى به رئيس كتلة حركة التغيير ببرلمان كردستان حين وصف حزب بارزاني بأنه لم يعد القوة الأوحد في كردستان، بل هو قوة من ضمن القوى الرئيسية في الإقليم، وهذا تصريح مهم في أبعاده وفي توقيته..

في مقال لي باللغة الكردية نشرته بموقع كردي دعوت الى تشكيل تحالف إستراتيجي بين الإتحاد الوطني وحركة التغيير بديلا عن الإتفاق الإستراتيجي الذي يربط بين الإتحاد وحزب بارزاني، وشرحت هناك أسباب وضرورات عقد ذلك التحالف الإستراتيجي، حيث رأيت بأنه رغم أن القتال الداخلي بين الحزبين قد طويت صفحته، وأنه لم يعد بإمكان أي من الحزبين( الإتحاد وحزب بارزاني) أن يعيدا هذه التجربة المريرة وخاصة في الظرف الرهن، حيث أن طلقة واحدة من بندقية أي منهما سيكون بمثابة إنتحار سياسي، لكن الصراع التاريخي بين الإتحاد الوطني وحزب بارزاني يمتد الى أكثر من ستين سنة ومازال قائما الى يومنا هذا،وأن هذا الصراع شهد في بعض الأحيان مواجهات دامية، وأعتقد بأن الصراع الفكري بين الحزبين هو أعمق من الصراع على السلطة، ومازالت إدارات الحكومة منقسمة وغير موحدة، لذلك من الأولى بالإتحاد الوطني أن يتحالف مع حركة التغيير قبلا لأنها على الأقل ترتبط بالإتحاد بوشائج تاريخية في الفكر والسياسة وفي مسيرة النضال ضد الدكتاتورية وكذلك في إدارة السلطة، كما أن هناك آلاف الشهداء المشتركين بينهم،كما أن حركة التغيير قدمت تنازلات كبيرة من أجل التعايش وتقاسم السلطة مع الإتحاد الوطني في محافظة السليمانية وغيرها من مناطق الزون الأخضر،وأن التحالف مع هذه الحركة أفضل بمليون مرة من تحالف هش مزيف مع حزب يخوض صراعه مع الإتحاد منذ أكثر من ستين سنة..

وكنت قد دعوت في ذلك المقال أيضا الى توسيع إطار التحالف الإستراتيجي ليشمل بقية الأحزاب وخاصة الحزبين الإسلامييين ( الإتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية) الشريكان بحكومة الإقليم حاليا لتتأسس جبهة وطنية مشتركة بين الأحزاب الأربعة تضع حدا لتفرد حزب بارزاني وإستئثاره بقيادة شؤون الإقليم، ويبدو أن هذا التوجه بدأ يتبلور أمام الأحزاب الأربعة، وهذا ما يرعب حزب بارزاني الذي بدأ يطلق تصريحات غريبة مثل أن هذه التوافقات بين الأحزاب الأربعة تهدف الى طرده من المعادلة السياسية أو عزله أو تهميشه،رغم أن بارزاني وقادة حزبه يدعون دائما الى وحدة الصف الكردي،ولكن كما يبدو فإنهم يريدون وحدة صفوف يكونوا هم في مقدمتها،ويفضلون توافقا جماعيا بكون حزبهم هو الحزب القائد بكردستان.

في مقابل التوافق الحاصل حاليا بين الأحزاب الرئيسية الأربعة وسعيها لبناء مواقف مشتركة تجاه مجمل العملية السياسية وتغيير النظام السياسي بما يدعم الديمقراطية وينهي الديكتاتورية، يحاول حزب بارزاني وعبر آلته الإعلامية الضخمة( المباشرة والمستترة) بإعادة ترتيش وتجميل وجوه قيادته،وتحاول مستميتة بتقديس مسعود بارزاني وتضخيم دوره السياسي خاصة تصوير زيارته الأخيرة الى الولايات المتحدة بأنها كانت تهدف الى كسب موافقة الإدارة الأميركية على إعلان الدولة الكردية المستقلة، كما صرح بذلك رئيس ديوان رئاسة الإقليم قبيل سفره الى واشنطن، حيث قال بصراحة أن الوفد ذاهب الى الولايات المتحدة لبحث مسألة إعلان الدولة المستقلة، لكن ما حدث هناك أن بارزاني لم يطرح هذا الموضوع بتاتا على جدول المحادثات،بل أنه تهرب من سؤال حول هذا الموضوع عندما سأله مراسل موقع "روداو" المقرب من ابن أخيه نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة الإقليم.

وبقي هناك موضوع تمديد رئاسة مسعود بارزاني الذي يتوقع أن يثير جدلا كبيرا في الفترة القادمة مع إقتراب موعد إنتهاء ولايته الممدة لسنتين، حيث أن بارزاني رغم علمه بأنه لا يحق له قانونيا شغل المنصب، لكنه لايتردد من تكرار قوله للأحزاب السياسية أذهبوا توافقوا على حل قانوني وأنا سأمتثل له،مع أنه يعلم علم اليقين بأنه لا مشروع الدستور ولا قانون رئاسة الإقليم ولا قانون التمديد البرلماني يسمح له بشغل المنصب لأكثر من ولايتين وسنتين ممدتين، وأنه لاحل أمام تلك الأحزاب سوى بتعديل قانون الرئاسة على غرار مافعله السوريون لتصعيد بشار الأسد للسلطة،أو كما فعل العديد من حكام المنطقة لتنصيب أنفسهم رؤساء مدى الحياة.

في الختام أقول أنه في ظل تقارب الأحزاب الرئيسية الأربعة وظهور بوادر جبهة وطنية لمواجهة تفرد حزب بارزاني،فإن هذا الحزب ليس أمامه سوى خيار واحد، وهو الإنضمام الى صف الأحزاب الأربعة الرئيسية من أجل تغيير النظام السياسي وجعله أكثر ديمقراطية،والشروع الجاد بمحاربة الفساد والمحسوبيات والسعي لتحقيق العدالة للشعب الكردي بدل تخديره بأفيون الإستقلال والإنفصال الذي لم يجن منه هذا الشعب سوى الخراب والدمار.

&