في الوقت الذي ننشغل بنقاشات وحروب داخلية فان الديموغرافيت تصنع حقائق على الارض لخلق جغرافية سياسية جديدة. ونحن غافلون عن هذه الحقائق التي ستفرض نفسها على الجميع. بالتاكيد انا لا اقول ان ان التغييرات الديموغرافية الهائلة في المنطقة، تحدث نتيجة لصدفة ما، وفي نفس المقدار انا هنا لا اود ان اروج لنظرية المؤامرة التي نرمي عليها كل خطايانا وجرائمنا.

ولكن رفض نظرية المؤامرة لا يعني البتة الاقرار بان الاحداث الجارية كانت متوقعة من اطراف دولية عديدة، وتم التذير منها ومن نتائجها. الا ان المنطقة الوحيدة الممانعة لهذه التحذيرات كانت المنطقة المسماة الشرق الاوسط وكوريا الشمالية لحد الان. ان الاختناق السياسي والانفجار السكاني والتسلح المفرط كاحد ادوات قمع الشعب وللتفاخر والانقسام المجتمعي بين مكونات بشكل جزر منعزلة بعضها عن البعض وهضم حقوق المكونات القليلة العدد او التي خارج السلطة في الغالب، وتجاهل دور المراة، كل هذه الامور كانت تختمر لتخلق الانفجار الحالي. فالانفجار السكاني المدعوم بفتاوي دينية واضحة، تسبب في بطالة لا يمكن وقفها او الحد منها، قياسا الى امكانيات اغلب هذه الدول سواء المادية او من ناحية القاعدة الاقتصادية، ولان البعض يستحوذ على دخل الدولة فاي حل للتكافل الاجتماعي لم يتم ايجاده. اما التسلح المفرط فقد كان في الغالب لاسباب دعائية داخلية في البدء الى ان تحول الى اداة للتصفية الحسابات الشخصية بين اهل السلطة في هذه البلدان.

ولكن هذا الانفجار يؤذي اهل المنطقة ويصيبهم بشضاياه محولا اياهم الى جرحى قد يفكرون في علاج حقيقي او يقرون بضرورة اتباع العلاج المجرب لدى الاخرين. فدول العالم الاخرى وان كانت تتحمل تبعات هجرة اجزاء من هذه الشعوب، الا انها قادرة على استيعابهم لا بل تحويلهم مستقبلا رسلا غير معروفين لثقافتهم ومنتوجاتهم نتيجة المعايشة.

فالملاحظ ان هناك امرين في غاية الاهمية يحدثان الان دون ان يتم ملاحظتها واعارتها الاهمية التي تستحقها، واولها التدمير التام لكل ماهو فضاء مشترك للجميع وما تم انجازه على قلته وتحويل المنطقة الى صحراء قاحلة غير قابلة للاصلاح، بل الى اعادة البناء من الصفر، واعادة البناء هذه لن تشمل العمران فقط، بل البنيان الفكري والا فان ما يحدث الان سيتكرر بين فترة واخرى. واعادة بناء العمران سيكون فقط في حالة اعلان طرف ما انتصاره على الاخرين وقبول الاخرين بهذا الانتصار، اي في حالة عدم وصول كل مكونات المجتمع الى عهد اجتماعي جديد يلاحظ حريات وحقوق كافة الاطراف. واذا عددنا المدن التي دمرت فباعتقادي اننا سنصاب برعب حقا من حالة التدمير الذاتي التي يقترفها ابناء المنطقة، لعدم قدرتهم على تقديم التنازلات المطلوبة للخروج من هذه الحالة القاتلة.

أما الامر الاخر فهو التغيير الديموغرافي الواسع النطاق الذي يحدث على الارض الان. فسابقا كان هناك خروج اشخاص ولجؤهم الى بلد اخر، مثلا الشيعة الى ايران، والسنة الى مصر او السعودية، او حسب الانتماء الايديولوجي، القوميين العرب الى مصر او سوريا، الاسلاميين الى السعودية او ايران وحسب المذهب، وكانت عوائل الهاربين او اللاجئين في الغالب تبقى في البلد لانها لم تكن مستهدفة، ولكن تدريجيا وبتصاعد القمع وقيام الانظمة بتهجير مكونات معينة او اجزاء منها، صارت اللجوء يشمل عوائل بكاملها لا بل بداء يجر الاخرين من الاقرباء للهجرة طلبا للحرية ولسهولة العيش ودعم بعض الدول للمقيمين فيها. كما اتصفت الهجرة واللجوء الحالي بالرغبة في البقاء في الدول الجديدة وعدم العودة الى الوطن رغم التغييرات السياسية الحاصلة. وما بقى يربط الناس باوطانها ليس الا ذكريات وعواطف لا تنفع الوطن واهله بشئ.

وبعد الحروب الداخلية في كل من العراق وسوريا وليبيا وتمتد الان الى بلدان اخرى مثل اليمن، بدات الهجرة تحدث على اساس مذهبي او مناطقي، كان يهاجر المسيحيين او الازيدية من المدن المختلطة لانهم مستهدفون من الكل، او ان يترك الشيعة مناطق ذات غالبية سنية او بالعكس.

ان عملية التدمير الذاتية والهجرة الجماعية هذه، شئنا ام ابينا ستصنع حقائق على الارض، وهذه الحقائق تعني حقائق جغرافية وسياسية، وبمعنى اوضح ان ماكان قبل الالفية الثالثة لن يكون بعدها ابدا. وبالتالي ان على الطبقة السياسية وبدلا من ان تبيع شعارات الوحدة الوطنية، ان تبحث عن حلول تقي المنطقة وشعوبها ويلات اكثر مما لحق بهم وبالاخص بعد هزيمة المجموعات الارهابية فكرا ووجودا، مع الاقرار بان اغلب المتغييرات التي حدثت لا يمكن، الا ان يتم اخذها بنظر الاعتبار. واهم امر باعتقادي هو المحاولة الحد من الاحقاد المتنامية، ان رغبنا حقا في بناء اوطان، على اساس المواطن وليس ما يعتقده او يؤمن به.