إن العلاقة بين العولمة و الهوية هي علاقة جدلية، كما أنها علاقة صراع و صدام، وذلك لاختلاف طبيعة كل منهما. و قضية العلاقة بين الهوية و العولمة طرحت علي أكثر من صعيد أو مجال و لا تزال تطرح لكونها من أهم القضايا و أكثرها صعوبة و تعقيدًا و أقربها حضورًا في عمق الجدل الدائر ليس لدي النخبة السياسية و الثقافية فحسب، بل حتى لدي العديد من الناس العاديين، لذلك أن انعكاساتها الفكرية و المعنوية و ونتاجاتها المادية قد اقتحمت كل مجالات الحياة. و يذهب بعض الباحثين و المفكرين إلي أن العولمة فعل يقلص امتداد الكون في هوية متجانسة ثقافيا و اقتصاديا و اجتماعيا. فالعولمة تعمل علي بناء ثقافة و أحدة، و تسعي إلي تذويب الحدود و الفوارق و الحواجز الثقافية و الفكرية و الاقتصادية بين الأمم، إنها سعي محموم لبناء المجتمع الإنساني علي مقياس الثقافة الواحدة، وبالتالي فان ثقافة العولمة هي ثقافة الشركات العابرة للجنسيات و القوميات و الثقافات.كما أن العلاقة بين العولمة و الهوية هي علاقة تنافر و صدام و صراع، فالعولمة تطارد الهوية و تلاحقها و تحاصرها و تجهز عليها.

وفي خضم هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الذوبان و الفناء و تتشبث بالوجود و الديمومة و الاستمرار، فالعولمة تعني ذوبان الخصوصية و الانتقال من الخاص إلي العام و من الجزئي إلي الكلي، ومن المحدود إلي الشامل. و علي خلاف ذلك يأخذ مفهوم الهوية اتجاها متقاطبا كليا مع مفهوم الشمولية إلي المحدود، فالهوية انتقال من العام الي الخاص و من الشامل إلي المحدود، أنها تبحث عن التمايز و التباين.فالعولمة تسعي إلي تجاوز الخصوصية و الانتقال إلي العمومية، و العولمة تسعي إلي تخطي الحدود و القفز من فوقها و التعدي علي خصوصية المكان وسكانه و اختراقه وغزو ثقافة شعبه و حضارته، وفرض ثقافة آخري عليه، مما يضعف من انتمائه الوطني والقومي و يساهم في تفكيك هويته ليصبح شعبا لا هوية تميزه عن غيره من الأمم و الشعوب. إذن أنه أقرب إلي نظام يعمل علي إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوي، ويدفع للتفتيت ليربط الناس بعالم اللا وطن.

إن اندثار الحدود السياسية و القانونية و الثقافية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة كالانترنت و الفضائيات يدمر آخر قلاع المقاومة للإنتاج الثقافي الغربي و الأمريكي بالأساس.

لذلك العولمة تتجه للقضاء علي الخصوصية الثقافية عامة في الأذواق.و لا تقتصر محاولات الأمركة علي مضامين الرسائل الإعلامية الدائمة التدفق بل تتعداها إلي التبشير بانتصار القيم الأمريكية و بطراز الحياة الأمريكية بدءا بأنماط السلوك و الملابس و اللغة و صولا إلي الانتصار النهائي للقيم الليبرالية، ولعل أبلغ مثال علي ذلك الاختراق الأمريكي هو تداول نمط من المفاهيم الغريبة و العجيبة مثل الماكدونالية. و يجب أن نشير إلي أن التعارض بين الهوية و العولمة هي ظاهرة يعيشها الغرب نفسه موطن العولمة و مصدرها، و بالتالي فالتعارض هو مظهر من مظاهر الصراع في عصرنا و هو صراع يعيشه العالم كما يعيشه كل بلد علي حده.

و سيظل الصراع بين العولمة و العولمة مستمرا كل منهما يدافع عن وجوده و قيمه و مبادئه. كل منهما يريد ان يفرض نفسه علي الآخر، العولمة تريد أن تختزل المسافات و تريد ان تحقق هدفها الجوهري في أن يصبح العالم قرية واحدة صغيرة بلا حدود أو فواصل، و الهوية تقاوم الذوبان و تسعي إلي الخصوصية.&

&