وسط ذهول العالم وحيرة زعمائه والرأي العام فيه، أعلن أبو بكر البغدادي قبل أشهر قليلة من الموصل نشوء دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام المعروفة باسم داعش، وسط ضجيج إعلامي كبير مقرون بمشاهد من العنف والدم والرعب والترهيب في غاية الوحشية.

لا أحد يعرف ما هو مصير هذا الكيان الإرهابي الجديد، هل سيبقى أم سيزول؟ وكيف سيتطور وأين ستتوقف حدوده؟ بعد فترة وجيزة من الترقب واللامبالاة العالمية، بدأ الغرب فجأة استنفاره بعد أن صدم بمشهد ذبح أحد صحفييه مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي وشكلت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحالفاً عسكرياً راح يشن غارات جوية على معاقل ومقاتلي داعش ولكن بلا جدوى فلا يبدو أن ذلك يخيفها أو يردعها عن القتل والتنكيل ونشر الرعب والإرهاب في كل مكان، إذ لا بد من التدخل البري الشامل لاستئصال هذا الوباء الذي جثم على أنفاس شعوب الشرق الأوسط وخاصة العراقيين والسوريين إذ هم أول ضحاياه المباشرين. يبدو أن مقاتلي داعش ينتظرون ذلك ويتوقعونه ويستعدون له بكل ما لديهم من وسائل، لأن من شأن ذلك تجذير وجودهم الدائم وتصويرهم بمثابة الممثلين للإسلام الذين يتصدون بشجاعة وعزم وروح انتحارية لهجمات الغرب الكافر الصليبية الجديدة على دار الإسلام، ومن ثم فرضهم لقراءتهم وتفسيرهم المتشدد، بل والمنحرف للقرآن والسنة النبوية ومقاربتهم للشريعة الإسلامية وحدودها.

تقول الرؤية الداعشية المنشورة عبر وسائل الإعلام أن الحدود القائمة بين الدول العربية والإسلامية هي حدود زائفة فرضها المستعمرون الغربيون في اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 والمعدلة بمعاهدة لوزان سنة 1923، ولم تتقبلها شعوب المنطقة الشرق أوسطية وكانت القوة العظمى آنذاك قد خدعت الزعماء العرب وخانت تعهداتها لهم وعلى رأسهم الشريف حسين شريف مكة وملك الحجاز في ذلك الوقت الذي وعدوه بمملكة عربية مستقلة مقابل دعمه لهم ضد الأتراك العثمانيين وما تزال وقائع تلك الفترة راسخة في ذاكرة الأجيال. ففي الوقت الذي لوح فيه البريطانيون من خلال مخابرتهم وعميلهم المدعو لورنس العرب بأوهام المملكة الهاشمية كان العملاء الخاصين في حكومة الهند البريطانية من أمثال سان جون فيلبي يدعمون عسكريا وماليا عبد العزيز بن سعود ملك نجد ومجموعة الإخوان السلفيين. قام الزعيم العلماني التركي كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة وتأسيس جمهورية حديثة في حين أرسل شريف مكة للمنفى وتم الاعتراف بعد العزيز بن سعود كملك لما يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية وحارس للحرمين الشريفين المقدسين في الإسلام. لذلك لا غرابة أن يعلن زعيم داعش في الرابع من تموز 2014 من على منبر جامع النور في الموصل في العراق إعادة إقامة دولة الخلافة مما يعني ضمناً إنهاء التقسيم الاستعماري القسري للمنطقة وإنهاء الحدود القائمة التي خطت في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

كانت هناك جماعات مسلحة متفرقة في العراق وبالذات في مناطق نفوذ النظام الصدامي السابق في الموصل والأنبار وصلاح الدين إلا أن داعش كانت متواجدة أيضاً في تلك المنطقة وتمارس نفوذاً كبيراً هناك بل لقد نجحت في احتلال الفلوجة بالكامل والهيمنة على ساحات الاعتصام في المنطقة الغربية ذات الأغلبية السنية وفرض الأتاوات والتلويح بالتهديدات ضد رؤوساء العشائر الذي لايرغبون في الإنضواء تحت سلطة هذا التنظيم الإرهابي الشرس. وفي ليلة التاسع والعاشر من حزيران 2014 زحف مقاتلوا داعش بالتنسيق مع بعض العشائر وبقايا النظام الصدامي البائد واحتلوا الموصل وسط دهشة الجميع إذ أن خطوتهم هذه لم تلق أية مقاومة تذكر من قبل القوات النظامية العراقية المتمركزة في المدينة وأطرافها ولم تتوقع القوى المسلحة المتعاونة مع داعش والمنسقة معها لتنفيذ الخطة، أن يتجاوز هذا التنظيم على كل الخطوط ويعلن دولة الخلافة بهذه السرعة ويقوم بطرد وتهجير وسبي الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية الأخرى ويسمح ببيع النساء الإيزيديات كغنائم وسبايا مشروعة في المزاد العلني ونشر أشرطة فيديو في غاية الوحشية عن قتل الجنود والأسرى والشيعة والرهائن الأجانب وارتكاب المذابح الجماعية مثل مذبحة سبايكر وحرق الطيار الأردني الأسير وهو حي وتدمير المدن الأثرية والآثار العراقية في نمرود والحضر ونسف الكنائس المسيحية والمساجد الشيعية والأضرحة والمقابر والمآثر الصوفية ونهب محتويات متحف الموصول، فكيف تمكنت هذه الثلة المجرمة في تحقيق كل ذلك في وقت قياسي في قصره؟

في آذار 2003 قبل السقوط ببضعة أسابيع أباح أحد كبار المسؤولين في المخابرات العراقية لأحد الصحافيين الأجانب بأن النظام بصدد تنظيم مقاومة مسلحة طويلة الأمد وستكون إسلامية الطابع لكسب التعاطف والشرعية في العالم العربي والإسلامي وسوف يقومون برفع الغطاء عن قدر الضغط الشرق أوسطي الذي يهمين عليه الغربيون منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية. ومن ثم بات معروفاً لكافة مراكز الاستخبارات العالمية أن صدام حسين نظم خطط المواجهة المسلحة السرية واستقدم الكثير من المتطوعين العرب والمسلمين وعدد من مقاتلي تنظيم القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي ووزعهم على عدة مناطق ووفر لهم الأموال والأسلحة والذخيرة المتطورة التي دفنت في أماكن متفرقة ومعلومة للكثير منهم وكانوا مقسمين إلى ثلاث مجموعات رئيسية وهم المجاهدين وأغلبهم من العراقيين من أنصار النظام السابق وجيش القدس والمخابرات وفدائيي صدام، والأنصار وأغلبهم من البعثيين غير العراقيين والمتطوعين العرب وكانوا منظمين قبل السقوط بفترة طويلة ويعيشون في بيوت وأوكار سرية والمهاجرين وعلى رأسهم قادة عسكريون من عتاة البعثيين المخضرمين وذوي الخبرة وكذلك مسؤولين بعثيين معروفين بكفاءتهم وخبرتهم في المجالات العسكرية والتخريبية ومن أصحاب المهارات التقنية والعسكرية الذين من مهامهم قيادة وتوجيه الانتحاريين. وقد أكدت بعض التقارير الاستخباراتية وجود تنسيق ولقاءات سرية بين مسؤولين كبار في النظام الصدامي المقبور وقيادات إرهابية عالمية من القاعدة وغيرها بمعرفة ومباركة بن لادن وأيمن الظواهري وكانت تلك اللقاءات تحدث بين عامي 1992 و 1998 وتكثفت بين 2000 و 2003 ويقال أن أحد منفذي عمليات الحادي عشر من أيلول في نيويورك سنة 2001 وهو محمد عطا التقى سرا في براغ مع ضابط عراقي رفيع المستوى في المخابرات العراقية يدعى أحمد العاني، وتحويل مبالغ طائلة بطرق خفية غير شرعية وغير رسمية لعدد من التنظيمات الإرهابية وبعض التنظيمات الفلسطينية المسلحة الموالية لنظام صدام حسين ولتنظيمات تتمركز في الباكستان لحثها للانضمام الى تنظيم القاعدة وتقوية شوكته وكان من بين هؤلاء معسكر أبو مصعب الزرقاوي الذي كان مستقلا عن بن لادن في ذلك الوقت وانضم إليه فيما بعد في العراق بعد السقوط بأشهر قليلة. ويقال أن صدام حسين أقام معسكرات تدريب سرية للمقاتلين العرب والأجانب المتطوعين لمحاربة الأمريكيين قبل السقوط في مناطق عدة من العراق وحتى بالقرب من بغداد. ولقد استفاد من حجة وجود جيش القدس والميليشيات البعثية وفدائيي صدام لاختيار آلاف المقاتلين المدربين تحت إدارة وتوجيه عسكريين محترفين وضباط كبار في المخابرات العراقية خاصة المخابرات العسكرية الذين تخرجوا من أرقى المدارس السوفيتية والأوروبية الشرقية والفيتنامية وأنشأ شبكة لتوزيع المال النقدي بعيدا عن الرقابة وبدأت تلك العناصر والقوى المسلحة عملها مباشرة بعد السقوط واحتلال الأمريكيين للعراق وكانت مجموعات إرهابية منظمة صارت تعمل باستقلالية نسبية لكسب المزيد من الشهرة مثل التوحيد والجهاد بزعامة الزرقاوي، الذي تحالف مع جماعة النقشبندية وفلول حزب البعث المنحل بقيادة عزت الدوري، وجماعة كتائب ثورة العشرين بزعامة حارث الضاري للقيام بعمليات تخريبية وإشاعة الفوضى وخلق حالة من الذعر بين المواطنين وتأجيج الخلافات والاستقطابات الطائفية والمذهبية بين السنة والشيعة كتفجير قبري الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، واستهداف المدنيين لخلق حالة من الهلع وعدم الأمان للإشارة إلى ضعف السلطة المركزية، تحت ذريعة مقاومة الاحتلال الأمريكي.

نشر أبو مصعب الزرقاوي عناصره في معسكرات أعدت له في شمال العراق في مناطق كانت تحت سيطرة النظام العراقي السابق بعلم ومباركة صدام حسين سنة 2001 لكنه هرب منها تحت وابل الغارات الأمريكية واختفى في الأنبار بعد أن وجد حاضنة شعبية محدودة مؤيدة له في المنطقة وأعلن انضمامه لتنظيم القاعدة الإرهابي الدولي لكنه كان يتصرف على هواه وبحرية ميدانية مستقلة عن أهداف وتخطيطات القاعدة. وفي 7 حزيران 2006 تمكنت القوات الأمريكية من قتله بعملية قصف جوي لمقره وسرعان ما حل مكانه المصري أبو حمزة المهاجر وبعده اختار تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو عمر البغدادي زعيماً للتنظيم وغير هذا الأخير إسم التنظيم إلى الدولة الإسلامية في العراق وعزم على تأسيس دولة إسلامية تطبق الشريعة في العراق لكنه قتل في نيسان 2010 في قصف جوي لمقره برفقة مرافقه ونائبه أبو حمزة. وهكذا انتقلت قيادة التنظيم الإرهابي إلى أبو عمر البغدادي المعروف بقسوته ووحشيته ونشاطه الإرهابي الذي أدى إلى اعتقاله من قبل الأمريكيين وزجه في سجن بوكا لمدة ثلاث سنوات ومن ثم أفرجت عنه القوات الأمريكية قبل انسحابها من العراق.

&كل العواصم فوجئت بهذا الانتصار الكاسح والمفاجيء لداعش عدا عمان وبغداد وواشنطن وتل أبيب. أحد زعماء حزب العمال الكردستاني السوري أفضى لأحد الصحافيين الغربيين بسر الاجتماع السري الذي عقد في العاصمة الأردنية عمان للتحضير لعملية اجتياح واحتلال الموصل والأنبار وصلاح الدين ومن المعلوم أنه لايمكن لأي اجتماع من هذا النوع يعقد في عمان بدون علم ومتابعة ومشاركة ومباركة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي أ، كان مشاركاً في ذلك الاجتماع أيضاً عزت الدوري وحارث الضاري وممثل عن تنظيم أنصار الإسلام وممثل عن تنظيم جيش المجاهدين وممثل عن داعش وبعض شيوخ العشائر السنية في المناطق الغربية من العراق وبعض رجال الأعمال الأغنياء أو ممثلين عنهم مثل الخشلوك والخنجر ثم تم التخطيط والتنسيق مع عناصر من الجيش العراقي السابق المقربين من صدام حسين وأعضاء في حزب البعث المنحل المتواجدين في الموصل وصلاح الدين والأنبار وقيادات عسكرية في داعش قدمت من سوريا واختيرت ساعة الصفر بتواطؤ من بعض القيادات العسكرية العراقية الخائنة التي تم شراؤها بالمال لإعطاء أوامر بالانسحاب وعدم المقاومة. لكن داعش تجاوزت الدور المحدد لها في العملية واستولت على كل شيء وهاجمت كردستان وقامت بعمليات التطهير العرقي والديني ضد الأقليات الدينية والعرقية واالإثنية بل وحتى عاقبت عناصر من البعث ممن رفض الانصياع لأوامر وإملاءات داعش.

واليوم باتت الدولة الإسلامية في العراق والشام أو داعش حقيقة يعرفها الجميع ويرهبها الرأي العام العالمي وتسيطر على أراضي واسعة أكبر من مساحة بريطانيا تمتد من غرب العراق إلى شمال وشرق سوريا وتمتلك موارد مالية ونفطية ولديها إدارة مدنية وجيش مقاتلين وحرس حدود وجمارك وتتحكم بثمانية ملايين نسمة وتقدم بعض الخدمات الاجتماعية وتتصرف كدولة حيث أصدرت جوازات سفر وعملة محلية وإجازات سوق ولكن هل سيتساهل المجتمع الدولي مع هذا الوباء ويتأقلم معه، أم سيعمل على إنهاء وجوده وإبادته، أم سيكتفي من طرده من العراق وتركه يتصرف بحرية في سوريا لاعتبارات سياسية وإستراتيجية غربية بحتة بالتواطؤ مع أنظمة الخليج التي تريد بأي ثمن الإطاحة بنظام بشار الأسد حتى لو كان البديل دولة داعش الإسلاموية؟

&