لم يمض على انهيار الجيش في الموصل عام حتى انسحب من الرمادي لتحتلها داعش. وإذا كانت المباغتة سبباً يبرر ما جرى في نينوى، فلا وجود للمباغتة في الانبار. وفي الحالتين، لم تنقص الجيش العدة والعدد إذا ما قورن بجماعة داعش الارهابية. حتى الفرقة الذهبية، المعروفة بتجهيزها العالي وبسالة جنودها، انسحبت من الرمادي.

بالتأكيد إن غياب الداعم والظهير المجتمعي عامل ضعف للقوات المسلحة، فهي موجودة ضمن بيئة رافضة. يتحمل الجيش جزءا كبيرا من مسؤولية الاضرار بسمعته، بسبب سلوكيات معروفة ساهمت بفقدانه لغة تواصل مع الشارع السني. والمسؤولية الاخرى تلقى على عاتق العقلية السياسية العراقية التي اخذت المؤسسة العسكرية الى مهمة طائفية، سواء في هذا الزمن أو السابق. وأما المسؤولية الثالثة التي لا تقل أهمية عن السابقتين فتتحملها القوى التي هرّجت وصعدت وحرّضت على الجيش، ما خلق موقفا عاما معارضا وكارها، وذلك لأغراض طائفية وسياسية وفئوية معروفة.

بالتزامن مع هذه الانتكاسات، طرحت الخدمة الإلزامية كضرورة تعيد للجيش عقيدته العسكرية. فكرة لا تصمد كثيراً أمام التاريخ القريب. مثلا، فرق الاعدام التي وقفت خلف القوات العسكرية في حربي الخليج الاولى والثانية، وحدها ما منع تفككه حينها، وليس الولاء. فالجيش هو انعكاس لشعبه، وهناك مشكلة عميقة داخل المجتمع العراقي. الولاء مأزق يعاني منه العراقيون، دائما هناك فكرة ما وراء الوطن يؤمنون بها قبل الوطن. الطائفة السنية للأمة الكبيرة المتمثلة بالاسلام او العروبة، والشيعية لهوية خاصة متمركزة حول ايقونات تاريخية. ولم يستطع المتصارعون حول الوطن ان يكونوا عقداً اجتماعيا يؤسس لـ"الوطن المصلحة" الذي يدافع عنه ابناءه حماية لوجودهم ومصالحهم.

البديل هو جيوش تمثل الهوية الأساسية، الشيعية والسنية فضلا عن الكردية. هي القناة التي ينظر للوطن من خلالها، وليس النظر اليها عبر قناة الوطن. فالطوائف لا تنظر لطوائفها عبر العراق، بل تنظر إليه بمنظارها المذهبي او القومي الخاص. وعلى هذا؛ فهي تبحث عن ما يحقق هذه الرؤية، اي القوة التي تحكم القبضة على تشكيل الوطن بمقاساتها. وهذا طبيعي، في ظل تراجع فرص نمو جيش وطني، وفي ظل فشل عراقي مستحكم يمنع أن يكون الجيش حاميا للوطن، وليس للنظام، كما في السابق.

الجيوش البديلة، الموجودة كالبيشمركة وفصائل الحشد الشعبي، أو المقترحة كالحرس الوطني او قوات العشائر، هي جيوش اكثر التصاقا بالمجتمع، اكثر قدرة على تمثيل تطلعاته وهويته. وهي بالنهاية جيوش اكثر كفاءة في الدفاع. كما أنها لا تنطلق من منهجية الخدمة الالزامية التقليدية، بل خدمة الزامية من نوع آخر لا يعتمد على تدخل الدولة، بل على توظيف المقدس والانتماء. فأغلب الموجودين في الحشد الشعبي جاؤوا تلبية لنداء المرجعية بحثا عن رضا الله، او جاؤوا بناء على انتماءات سابقة كما في شبان التيار الصدري الذين يعملون تحت راية "سرايا السلام".

ويبدو أن الامريكيين يعملون على هذه النقطة بشكل جدي. ربما لأنها أكثر واقعية، او بحثاً عن أهداف ستراتيجية معينة. لكن اظن بأن فشل انشاء جيش وطني بفعل غياب المجتمع الوطني، والاحزاب الوطنية، سبب كاف لقناعة الوصي الامريكي بوجود هذه التشكيلات. ولأن الحشد الشعبي يسعى لتفسير العراق شيعيا، وهذا ما لا يرضي الامريكيين، فإنهم يعملون على تدعيم قوى مسلحة سنية ودعم البيشمركة الكردية لمنع ذلك.

ان هذه التشكيلات تأتي دائما على هامش الفشل الوطني، الانقسام المجتمعي الحاد، مع وجود عدو خارجي او نزاع داخلي. الجناح العسكري لحزب الله في لبنان و"مشروع" الجيش الحر في سوريا، يمثلان نموذجين لهذا الفشل والانقسام فضلا عن ضعف المؤسسة العسكرية أو عدم الثقة بها. وفي أحيان تقوم السلطات المركزية بذلك، عندما تبحث عما يعزز ثقتها بقوتها، او حين لا تمتلك ثقة كافية بالمؤسسة العسكرية. ولذلك قام نظام صدام حسين بتشكيل الجيش الشعبي، باعتباره قوة تمارس الدور الرديف الذي يحتاجه.

فهذه الجيوش "الواقعية"، تمثل النتيجة الطبيعية لانقسام مجتمعي، وهي في الوقت ذاته تنتج أحد خيارين؛ امام خضوع طائفة لأخرى، أو تقسيم البلدان وامتلاك كل جزء لقوته الخاصة. أو انها ستكون مرحلة انتقالية يعاد بها تشكيل الأوطان. الاحتمال الأخير الأفضل لوحدة الاوطان ومنع ظهور رسمي لدويلات مذهبية، الا انه يستدعي، قبل كل شيء، عدم الاستستلام لمشاريع التقسيم.
&