ربما كان يُقرأ، في حينه، بنظرية المؤآمرة فيما لو روَّج الكُرد كثيراً في العراق لفكرة تحويل البلد عموماً الى مناطق و أقاليم فيدرالية. الخشية من هذه القراءة، دفعت الطرف الكُردي مبكراً الى أن يقبل بصيغة "عراق إتحادي و موحد" في الدستور الدائم (2005م) بدلاً من أن يتم إبراز فكرة " فدرالية العراق"بصيغة شاملة، و كان ذلك تحسباً منهم لحساسية التعاطي مع المفاهيم الجديدة المشكوكة فيها سلفاً و ضرورة طمأنة العراقيين و الشركاء في العملية السياسية برغبة الكُرد في إبقاء العراق موحداً طالما الدستور مُقر بحقوق الجميع و يُكَفل مبدئياً عراق ديمقراطي خالٍ من الإقصاء و الإستبعاد للمكونات و الأقليات.

&تجربة الحكم في عراق ما بعد صدام، لاسيما مرحلة السيد نوري المالكي، كشفت شيئاً فشيئاً بأن ثمة وراء ستار التظاهر بشعار "وحدة العراق" مشروع مستور وخطير يتم الإشتغال عليه على قدم و ساق إرساءاً لعهد إستبدادي جديد في البلد، لكن هذه المرة تحت غطاء "حكم الأكثرية" الذي لايعني عملياً سوى إقصاء الشركاء في العملية السياسية و شرعنة المباشرة بمشاريع التصفية لحد الوصول الى التطهير الطائفي و العرقي، لاسيما بحق كل من يقف في وجه "الممثل الشرعي!" سياسياً لهذه الأكثرية، المُختزل طبعاً في شخصية رئيس الوزراء!

&و المتابع للحالة العراقية يعي تماماً بأن الحديث بمنطق حكم الأكثرية في البلدان النامية لايمكن أن يؤول الى شيء آخر إلا الديكتاتورية، خصوصاً في غياب تراث سياسي ديمقراطي يضمن حماية المكونات و يحُد من غطرسة النُخب السياسية التي لاتفقه شيئاً سوى عقلية الثأر و روح الهيمنة و إثارة الفتن على ما عاشرنا ذلك كله تماماً أثناء وجود رئيس الوزراء العراقي السابق في سدة الحكم.

&و إذا ثمة فعلاً ما يفسر اليوم فرض حكومة بغداد لأسوأ حصار مالي على كُـردستان العراق، أو ما تشهده المناطق السنية في العراق من تمدير كامل للبنية التحية و نزوح الملايين من أبنائها على يد داعش و الحشد الشعبي و القصف الجوي الأمريكي، فهذا كله يعني لنا، من جملة ما يعنيه: إن شعار وحدة العراق، فضلاً عن الدعوة الى حكم الأكثرية، لم يكن الهدف الأساس منهما شيئاً آخر سوى تنفيذ مخطط غير وطني عنوانه الرئيس إقصاء المكونات الأخرى من العرب السنة و الكُرد و الأقليات و حصر السلطة و السلطان كله في يد نخبة سياسية فاشلة هيأت فعلياً الأجواء على الصعيد السياسي و الأمني و المجتمعي لأن يفكر جميع المكونات الأخرى العراقية، بما فيها العرب الشيعة في البصرة، بخيار التحرر من حكم هذه النخبة و الدعوة الى إقامة أقاليم فيدرالية خاصة بها على غرار ما هو قائم في إقليم كُـردستان العراق، وحتى إذا ما تعذر ذلك بفعل الأحداث و التطورات التي عادةً ما تغربل الأجندات و السيناريوهات، فأن القبول –إضطرارياً- بحكم أي طرف آخر عدا تلك النخبة المُتحكمة بإرادة البلاد و العباد، يبقى أمراً ممكناً!

&المستجد في الحالة العراقية اليوم، هو أن المشروع الكُردي الذي بدأ بـ"ديفاكتو" الفيدرالية أصبح الآن يتطور نحو فكرة الدولة، خصوصاً بعد قطع حكومة المالكي/العبادي - في إطار مشروع إخضاع الجميع للأجندات الطائفية- ميزانية أقليم كُـردستان و إصابة كافة المشاريع الإنمائية و العمرانية في الأقليم بالشلل نتيجة لذلك. أما المستجد الآخر المتعلق بالعرب السنة فهو إستحالة القبول مجدداً بسيطرة حكومة غير وطنية على مناطقهم، ما يعني أولاً بقاء داعش في المناطق السنية لحين طرده في التوقيت المناسب كما حصل ذلك سابقاً على يد عشائر العرب السنة في 2006 ضد تنظيم القاعدة، و ثانياً التوجه نحو إقامة أقليم فيدرالي خاص بهم يضمن لهم عدالة توزيع السلطة و الثروة في البلد، وقد يتفاعل - بعد البصرة - جميع المناطق الشيعية الأخرى أيضاً مع فكرة الأقاليم الفدرالية، سيما إذا ما ظلت أحوال البلاد على ماهي عليها الآن، و ربما هذا هو الرهان الوحيد حالياً لإعادة الحد الأدنى من التوازن المجتمعي و السياسي و الإقتصادي في العراق و للحد من المشاريع الطائفية التي تقوم على حساب دماء العراقيين و تخريب البلد، و إذا كانت الحكومة العراقية تتهرب حتى الآن من تنفيذ بنود الإتفاقيات الموقعة مع أقليم كُـردستان حول توزيع السلطة و الثروة، فالهدف منه واضح للعيان، هو، بجملة واحدة، ضرب تجربة الأقليم الوحيد الآمن في العراق تقويضاً لأي حلول ديمقراطية و وطنية أخرى تزعزع المشاريع و الإطماع الطائفية، خصوصاً بعد أن دعت أحزاب و قوى سنية عديدة في الآونة الأخيرة الى تشكيل أقليم فيدرالي سني و تعالت الأصوات المنادية بإقامة أقليم البصرة.

&

كاتب و إعلامي – كُـردستان العراق