&

يتذكر عزيزي القارئ كتاب رأس المال، الذي بدأ كتابته في القرن التاسع عشر الاقتصادي الالماني كارل ماركس، وتوفى قبل أن ينهيه، ليكمل الجزئين الثاني والثالث منه زميله فريدريك أنجيلز. وقد أدى فلسفة هذا الكتاب، لبروز النظام الشيوعي، والذي أنتشر بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى صراع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ولينتهي هذا الصراع في نهاية القرن العشرين، بفشل النظام الشيوعي، وانهيار الاتحاد السوفيتي، "ولينتهي تاريخ العالم"، كما قالها المفكر الأمريكي الياباني الأصل، فرانسيس فوكوياما، بانتصار الديمقراطية اللبرالية، بنظامها الرأسمالي. ومنذ ذلك الوقت توجهت دول العالم نحو الرأسمالية، وذلك بالتخلص من الانظمة التي تقيد حركة سوق العولمة التجارية، كما خصخصت الكثير منها قطاعها العام، بل بدأت تخصص خدماتها التعليمية والعلاجية، وحتى بعض الخدمات الامنية والعسكرية وادارة السجون.
وقد بدأت المرحلة الجديدة من سوق العولمة، بعد تحريرها من الانظمة المقيدة، مع خصخصة الخدمات الحكومية، في بداية الثماننيات من القرن الماضي، والذي لعب الرئيس الأمريكي رونالد ويجن، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تشر، دورا مهما في ترسيخها. وبعد تجربة 35 عاما من هذه التجربة برز كتاب فرنسي متخصص في الاقتصاد، بيعت منه حتى الان اكثر من مليون ونصف نسخة، يناقش، رأس المال، في القرن الحادي والعشرين. وقد كتب هذا الكتاب الاقتصادي الفرنسي، توماس بكيتي، والذي قضى 15 عاما مع فريق ابحاثة، بين جامعة الأم أي تي، الأمريكية، وجامعات باريس، لدراسة احصائيات توزيع الثراء، خلال الالف سنة الماضية، وبالاخص خلال الثلاثمائة سنة الاخيرة. فليسمح لي عزيزي القارئ أن نتدراس معا هذا الكتاب لاهمية موضوع، عدالة توزيع الثراء في مجتمع العولمة الجديد، والذي قد تكون نتائج تأثيراته معقدة، والتي برزت في عام 2011، بما سمى بثورة حزب الشاي في نيويورك، والتي اشعلت ناراها شوارع لندن وباريس ومدريد، وحتى اليونان وايرلاندا، بل لتمتد لما سمى "بالربيع العربي"، او "الصحوة الاسلامية" في الشرق الأوسط.
ويناقش البروفيسور توماس بكتي& في كتابه السؤال التالي: ما هي الديناميكية الرئيسية لتراكم وتوزيع رأس المال؟ ويعقب بقوله: "تقع الاجابة حول التطور الطبيعي الطويل الامد لتفارق العدالة التوزيع المجتمعية، وتراكم الثراء، ومستقبل التنمية الاقتصادية، في قلب اختصاص الاقتصاد السياسي. ولكن الحصول على الاجابة المقنعة صعبة المنال، بسبب قلة الاحصائيات أولا، وندرة النظريات الاقتصادية العملية الواضحة ثانيا." وقد قام توماس بكتي بتحليل المعطيات الاقتصادية خلال القرون الثلاثة الماضية، ليكتشف نوعية الانماط الاجتماعية الممكنة. وقد تشكل نتائج ابحاثه النقاشات المستقبلية، في موضع تباين الثراء، كما قد تضع جدول اعمال واقعية للاجيال القادمة، لنظريات الثراء، وسوء توزيع هذا الثراء، والتي قد تكون من اختلاطاته اضطراب الاستقرار المجتمعي، وتفاقم الصراعات السياسية، والتي انتهت في تجارب القرون الماضية، بثورات دموية، وحروب مدمرة.
ويبين الكاتب بأن التنمية الاقتصادية الحديثة، وبانتشار المعرفة، من خلال التطورات التكنولوجية،& سمح لمنع عدم المساواة الكارثي، الذي توقعها كارل ماركس، ولم تحدث، والتي أدت لفشل نظريته الماركيسية. ولكننا مع ذلك لم نغير البنية العميقة لرأسمال، وعدم مساواة عدالة الثراء، كما توقعناها بعد التفائل الذي عشناه بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتقد الكاتب بأن المحرك الريئسي لتباين الثراء اليوم، هو الميل نحو زيادة ربحية رأس& المال، لتتجاوز نسب هذه الربحية النمو الاقتصادي، الذي هو مرتبط بدخل عامة الشعب من خلال رواتبهم، والذي سيهدد بخلق تباين ثراء مفرط، قد يؤدي لعدم الاستقرار، ليخلخل القيم الديمقراطية، التي هي أساس الحضارة الغربية في القرن العشرين.
فتباين الثراء هو من اهم المواضيع المختلفة عليها، والتي تناقش اليوم. فالبعض يؤكد هذا التباين في الثراء في المجتمعات الغربية، ولكن هناك فريق اخر يؤكد بأنه بسبب التطورات التكنولوجية، وتوسع انتشار المعرفة، وبتقدم سوق العولمة، انخفضت نسبب الفقر بين مئات الملايين في دول العالم النامي، وقد ادى ذلك لخفض نسب تباين الثراء على المستوى العالمي، بالرغم من بروز تباين الثراء بشكل واضح في الدول الرأسمالية الغربية. كما يتسأل البروفيسور ما هي خطورة تباين الثراء البارز، على المدى الطويل، على شعوب المجتمعات التي بدأت تعاني منها؟ فهل فعلا ديناميكية تراكم رأس المال الخاص، يؤدي حتميا إلى تراكم الثراء في أيدي قليلة، كما اعتقده كارل ماركس في القرن التاسع عشر؟ أم قد يؤدي توازن قوى التنمية، والتنافس، والتقدم التكنولوجي، في المراحل المتقدمة من التطور، إلى خفض تباين الثراء، وبروز التناغم المجتمعي بين الطبقات، كما اعتقده سيمون كوزنت، في القرن العشرين؟ وماذا الذي نعرفه حقيقة عن كيفية& تطور الثراء والدخل، منذ القرن الثامن عشر، وما هي الدروس التي يمكن ان نستنبطها من هذه المعرفة للقرن الحادي والعشرين؟&
ويعلق الكاتب بانه سيحاول أن يجب على هذه الأسئلة، ولكنه حذر القارئ بأن الاجابات لن تكون كاملة ولا مثالية، ولكنها تعتمد على معطيات تاريخية، ومقارنة واسعة، ترجع على امتداد ثلاثة قرون ماضية، حيث لم تكن متوفرة من قبل للباحثين، كما سيعرض شبكة من النظريات التي وفرت فهم الخلفية الالية لهذه التطورات. فقد منع النمو الاقتصادي الحديث، وانتشار المعلومة، الكارثة التي توقعها كارل ماركس، ولكنها لم تشكل البنية العميقة لرأس المال، وتباين الثراء، على الاقل ليس كما تفائل البعض بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فحينما تزيد ربحية رأس المال على نسبة نمو الانتاج والدخل، كما حدث في القرن التاسع عشر، والذي قد يتكرر في القرن الحادي والعشرين، سيؤدي ذلك في الرأسمالية اتوماتيكيا لتبياين ثراء تعسفي، غير قابل للاستمرار، والذي يقلل جذريا من قيم الجدارة والكفاءة، والتي هي اساس المجتمعات الديمقراطية، ويركز من جديد على تراكم ارث الثراء، والوساطة، وارستقراطية الثراء المتزايد. ومع ذلك هناك طرق كثيرة تستطيع الديمقراطية ان تستعيد السيطرة على الرأسمالية، لتتأكد بأن المصالحة العامة تتقدم المصالح الشخصية الخاصة، مع المحافظة على الانفتاح الاقتصادي، وتجنب الانفعالات الحمائية والقومية.
فحينما ولد الاقتصاد السياسي في بريطانيا وفرنسا في نهاية القرن الثامن العشر وبداية القرن التاسع عشر، كان موضوع توزيع الثراء سؤال رئيسي، حيث بدأت تغيرات جذرية، بسبب التغيرات الديموغرافية، وهجرة من الريف، والثورة الصناعية. ويبقى السؤال كيف غيرت هذه العوامل توزيع الثراء، والبنية المجتمعية، والتوازن السياسي للمجتمعات الاوربية؟ وقد كان في رأي "توماس مالتس"، الذي نشر بحث عن اساسيات الديموغرافية في عام 1798، بأنه ليس هناك أي شك بأن الخطر القادم "زيادة السكان". حيث زاد سكان فرنسا من 20 مليون في عام 1700 الى 30 مليون في عام 1780، والذي أدى لجمود الرواتب الزراعية، وزيادة سعر اجار الاراضي، والتي ترافق بانتشار الفقر، والذي تبعه الثورة الفرنسية في عام 1789، بعد أن فقدت الاستقراطية والنظام السياسي شعبيتهما. لذلك طالب مالتس بوقف المساعدات الخيرية للفقراء، بل خفظ نسب الخصوبة بينهم. بينما كانت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر مبهرة، لذلك تصور ديفيد رياكاردو 1817 بان اصحاب الاملاك، كما تصور بعض علماء الاقتصاد بأن اصحاب& المصانع، سيغنمون بزيادة نصيبهم من الانتاجية والدخل، حيث سيزداد سعر الاراضي، واجارتها، لتستمر في انهاك الدخل الوطني، ليقل الدخل الموجود لباقي الشعب، ليختل التوازن المجتمعي. ومع الوقت قلت قيمة الاراضي، حينما قل نصيب الانتاج الزراعي، من الدخل الوطني بعد بدأ ثورة التصنيع. ومع الوقت برز دور رأس المال في بناء هذه المصانع، ومدى ربحية رأس المال، على حساب الايدي العاملة المنتجة، والتي كانت تحصل على رواتب قليلة، وبساعات عمل طويلة، وتعيش بيئة عمل مخزية، كما كانت حياتها المعيشية مزرية، بعد أن انتقلت من الريف الى المدن الصناعية. ويتمحور نقاش الكتاب حول نصيب راس المال من الربحية مقارنة بنصيب اليد العاملة.&&&&&&&&
وقد زار توماس بكتي اليابان في شهر مارس الماضي، وقد علقت النائبة البرلمانية ووزيرة الدفاع السابقة، يوريكو كويكه، على صفحات المجلة الالكترونية، بروجيكت سينديكت، على زيارته بقولها: بعد ستة اشهر من شهرة كتاب توماس بكتي، رأس المال في القرن الحادي والعشرين، في الولايات المتحدة واوروبا، اصبح مؤخرا هذا الكتاب الاكثر مبيعا في اليابان، ومع الاختلاف الكبير بين اليابان ودول الغرب المتقدمة، أدى لان يأخد حوار بيكتي خصوصية فريدة باليابان. فيؤكد بكتي بأن المحرك الرئيسي لزيادة تباين الثراء في الدول المتطورة هي تراكم الثراء بيد من هم أثرياء، مدفوع بالنسبة المرتفعة على ربحية رأس المال، والتي تزيد عن نمو الناتج المحلي الاجمالي. وفي الحقيقة تتميز اليابان بان بها أقل نسبة تباين الثراء بين الدول المتطورة. ففي اليابان ضريبة الدخل على الاغنياء مرتفعة، لتصل 45%، كما ان ضريبة التوريث رفعت إلى 55%، مما يصعب تراكم الثراء عبر الاجيال، وهو المحرك الرئيسي لتباين الثراء، حسب رأي توماس بكتي. ونتيجة لذلك تفقد العوائل الاكثر غناءا في اليابان ثرائها خلال ثلاثة اجيال، وهذا الذي يدفع بعض العوائل الغنية اليابانية للانتقال لسنغافورة واستراليا، حيث ضريبة التوريث منخفضة، فيبدو بأن الاثرياء لم يعودوا متقبيلين لزيادة الضرائب عليهم. ولذلك ليس من الغريب بأن الثراء الفائق بين العوائل اليابانية أقل ثراءا من الدول الاخرى. فمثلا في الولايات المتحدة، وصل متوسط دخل العائلة في قمة 1% في المجتمع في عام 2012، الى حوالي المليون ومائتي الف& دولار، بينما وصل في اليابان الى مائتين واربعين الفا دولار. فالشعب الياباني يتحسس من تباين الثراء، مما ادى لتجنب الاثرياء ابراز ثرائهم.
فببساطة شديدة لن ترى في اليابان الفلات الضخمة، واليخوت والطائرات الخاصة، التي تشاهدها في بفرلي هلز، وبالم بيش. فمثلا، هاروكا نشيماتسو، الرئيس والرئيس التنفيذي السابق، لشركة طيران جال اليابانية، لفت نظر العالم قبل سنوات لحياة البساطة التي كان يعيشها، فقد كان يعتمد على النقل العام، ويتناول غذائه مع زملائه في مطعم الشركة.. فقد انغمس المجتمع الياباني في مفاهيم البساطة والرزانة في المعيشة الحياتية، وهو انعكاس للفلسفة الكونفوشيسية، حيث لا يمكن ان يرث الانسان الفقر، في مجتمع يؤمن بفرص المساواة. وهذا هو سبب قبول الشعب الياباني الوضع، مهما كان سيئا، ما دام انه يؤثر على الجميع بالتساوي، وهذا هو سبب تحمل الشعب الياباني عقدين من التباطئ الاقتصادي، بدون أية صراخ شعبي، أو ثورة شعبية، على المسئوليين الذين فشلوا عدة مرات في محاولة احتوائه. وهذه الصفة القومية ليست محدودة فقط في الاشخاص، بل أيضا في الحكومة والبنك المركزي والاعلام والشركات، فالجميع تحمل ببساطة التباطئ الاقتصادي، في الوقت الذي كان عليهم أن يركزوا على معالجته.
وفي النهاية هناك حكومة في اليابان يقودها رئيس الوزراء شنزو ابيه، مهتم لانهاء التباطئ الاقتصادي، والدفع للتنمية الاقتصادية، باستخدام مركب،& سياسة نقدية توسعية، وسياسة مالية نشطة، وتحرير قيود السوق من الانظمة. فهذه هي السنة الثالثة لما يسمى بالابيكونوميكس، وقد بدأت تبرز بعض اجابياتها، فقد ارتفعت اسعار سوق الأسهم 220% منذ وصول رئيس الوزراء ابيه للحكم في عام ديسمبر عام 2012، كما ان اداء الشركات اليابانية تحسن، وخاصة في مجال صناعات التصدير، والتي استفادت من انخفاض سعر الين الياباني، مع الكثير من الشركات سجلة ارباح غير مسبوقة. ولكن حان الوقت لكي تفيد الابيكونوميكس الان الجميع، وفي الحقيقة هناك شعور بان سياسات السيد "ابيه" تلعب دورا في زيادة تباين الثراء، وهذا هو سبب اهتمام اليابانيين بكتاب توماس بكتي. فمثلا، فمع ان خفض الضرائب على الشركات كان مهما، لتشجيع النمو الاقتصادي، ولجذب الاستثمارات، ولكن يبدو لليابانيين بأنها سياسة تدفع للمساءلة، حينما ارتفعت ضريبة الاستهلاك على عامة الشعب، كوسيلة لمعالجة التباطئ الاقتصادي، ولكن ارتفعت معها اسعار البضائع. ولمعالجة هذه المعضلة قد تحتاج الشركات التي تتمتع بخفض الضرائب، ان ترفع رواتب الايدي العاملة، ليتماشى مع ارتفاع الاسعار، بدل الانتظار حتى تدفع قوى السوق لهذا الارتفاع في الرواتب. وهنا تبرز نظرية بيكتي في اليابان، فتباين الثراء في اليابان ليس بين الاشخاص الفائقي الثراء، والبقية، ولكنه بين الشركات العملاقة، التي حافظت على زيادة ارباحها، ليتراكم الثراء& لديها، بدل أن تشاركه مع عامة الشعب الذين انضغطوا بين اليات سياسات الاصلاح الجديدة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد مجتمعات الشرق الاوسط& من كتاب تومس بكتي والتجربة اليابانية لخفض نسب تباين الثراء، للمحافظة على الاستقرار في المنطقة، بخلق فرص جديدة للشباب لنشأ طبقة وسطى شابه متعلمة، ذكية، ومنتجة، ومبدعة، لتكمل مشوار الاستقرار والتنمية المستدامة في الشرق الاوسط؟ ولنا لقاء

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان

&