من حين لأخر، ترتفع في العراق بين الأوساط السياسية، ضجة تؤجج المخاوف من تقسيم البلاد. المخاوف تصعد وتنزل فيما العراق في حرب حقيقية مع وحوش داعش وذلك منذ ان تسلموا من المالكي الموصل، لقمة سائغة بلا إطلاق نار. ومنذ ذلك والتنظيم الإرهابي يشن حرباً تجمع بين حروب المواقع وحروب العصابات، وتحتل وتتراجع ولتعود للهجوم. انسحبت من تكريت لتحتل الرمادي على مشارف بغداد. وهكذا دواليك.
الوضع خطير وارواح العراقيين وسلامة العراق في خطر اكيد. ان المتساجلين عن الوحدة والتقسيم، بأكثريتهم الساحقة، لا يقتربون من صلب الموضوع وجوهره، وأعني الوحدة العراقية لا تعني فقط الوحدة الجغرافية-الإدارية، واما هي قبل كل شيء وحدة المجتمع القائمة على مبدأ المواطنة بين المكونات، لها خصائصها ولها حقوقها الخاصة، ولكن ما يجمع بينها، انها تعيش في وطن واحد، إذا مُس جزء منه بضرر، أصيبت بقية الأجزاء.
ان ما حصل في العراق هو قبل كل شيء تراجع المبدأ الوطني الذي هو ما يجعل الشعب لحمة واحدة، في الضراء والسراء، وهو ما يصون البلاد من التقسيم. ان تراجع المبدأ الوطني امام استفحال التقوقع على الانتماءات الفرعية ونسيان ما يجمع العراقيات والعراقيين على اختلاف الدين والمذهب والعرق، قد قوض اهم شروط المقاومة الناجحة للعواصف التي تهدد وحدة البلاد محلية او إقليمية او دولية.
ان العراق في حالة حرب كبرى، وفي الأوضاع الطبيعية فان حماية الامن والسيادة تتم بجيش وطني مسلح جيداً، وبقوات شرطة وامن وطنية. والحال ان جيشنا بوضعه الراهن قد اخترقته الطائفية وطاعون الفساد، وزجوا أحيانا فيما لا يجب. الوضع الطبيعي هو الاعتماد على الجيش وبإسناد الشرطة وقوى الامن، ولا حاجة حقيقية لحشود شعبية او عشائرية. ولكن الوضع الحالي هو ما يفرض الحاجة الى هذه القوات، لان اوضاعنا كلها غير طبيعية.
ان أعظم مصائبنا، غياب روح التماسك الوطني، التي كانت سائدة في معظم العهود السابقة للعراق الحديث. في الثلاثينيات جرى نفي زعامات كردية الى الفرات الأوسط، فاستقبلهم شيوخ العشائر بالترحاب والحماس. وثمة صور تذكارية بذلك في كتاب (تاريخ الوزارات) لعبد الرزاق الحسني. وفي كلية دار المعلمين العالية، كان صفنا في أواسط الاربعينيات مكوناً من8 طلاب، بينهم 4 يهود، ومسيحيان ومسلمان أحدهما كردي شيعي والأخرى عربية سنية لم يكن يعوزنا غير آخرين من الصابئة المندائيين والتركمان والايزيدين، ليتجسد العراق المتضامن في صفنا، وهذا ما حدث في السجن فيما بعد. وعندما اندلعت وثبة 1948 ضد معاهدة بورتسموث (وقد شاركت فيها كجندي من جنودها) كان الحماس الشعبي من النجف والكاظمية لا يقل عنه في الاعظمية وبغداد وبقية مناطق العراق.
وفشلت مناورات طائفية حاولت إرجاع الوثبة الى طائفية سنية ترفض وجود رئيس الوزراء الشيعي (صالح جبر) في منصبه. وهنا اذكر ان الحماس العام كان جارفا وكل القوى الوطنية موحدة حول الأهداف، سواء كان موقفها من المعاهدة سليماً او كان يجب ان تطالب بتعديلها وتحسينها. وبعد سقوط الوزارة وقيام وزارة محمد الصدر وبمناسبة أربعينية الشهداء، شهدت بغداد مواقف ومناظر رائعة من التآخي الشعبي، كزيارات وفود من الكاظمية لمسجد أبي حنيفة وبالعكس وزيارات وفود رجال الدين اليهود والمسيحيين للمساجد للتعزية. وكانت مبادرات وطنية صادقة وصميمية، لا كما يجري اليوم من مشاركة صورية لغير المسلمين في المواكب الحسينية، وذلك تحت الإحراج وبعامل الخوف.
ان ما يصد رياح التفكك والتبعثر هو شعور الجميع بان البلد بلدهم وان الحكام لا يميزون بين مواطن وأخر على أساس الدين والقومية والمذهب وما حل بنا إنما العكس، وهو الاحتقان الطائفي والتقوقع على الذات، والتهالك على الامتيازات ومواقع الدولة.&&&&
ان ترديد شعار الاكثرية العددية لا يتفق مع المبدأ الديمقراطي، لان الأكثرية الديمقراطية هي الأكثرية البرلمانية، مثلا ان السود في الولايات المتحدة لا يزالون أقلية. ولكن الرئيس الأمريكي اسود.
وحين تركت الإدارة العراقية كردستان، زمن صدام. وقامت الفدرالية، أيدتها كل القوى الوطنية المعارضة (آنذاك). وصار الإقليم ملجا لهم. ذلك لان فدرالية كردستان قائمة على فوارق اللغة والعرق والتاريخ والجغرافيا. أما حين نادت الأحزاب الشيعية بإقليم الوسط والجنوب، فقد عارضها كثيرون من الساسة والمثقفين، لأنهم رأوا انه مشروع يقوم على وحدة المذهب ويهدد بالانفصال.
اجل، ان الطائفية والنزعات العرقية المتطرفة هي من مقوضات وحدة البلاد، لقد فقد العراق تضامن سكانه، وعم فقدان الثقة وتبودلت الاتهامات وهذا هو الخطر الذي يهدد الوحدة الوطنية. وهذا ما لا نريده على أية حال للعراق، بل نريده عراقا واحداً، ديمقراطيا علمانيا اتحاديا، تتم فيه تلبية كافة الحقوق المتميزة. عراق بلا محاصصات، وبلا أقاليم طائفية وبلا حديث عن المظلوميات والاكثريات، وتعيد للعراق وحدته الوطنية الراسخة والوطيدة والعصية على الانهيار.
بعد اعداد هذا المقال صدرت عن السيد المالكي تصريحات ذات طابع طائفي صارخ ومثير ضد سنة العراق مما يدخل في باب التحريض على العنف والإرهاب. أمثال هذه العقليات والتصريحات والمواقف هي في مقدمة مقوضات الوحدة الوطنية.

&