إسرائيل المتَّجهة، منذ سنوات، باطّرادٍ، نحو اليمين، واليمين المتطرّف، تواجه حرَجا سياسيا؛ نتيجةَ انكشاف موقفها المُعيق، إنْ لم يكن المدمِّر، لحلِّ الدولتين، أو أيِّ حلٍّ سياسيٍّ يُفضي إلى إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية التي يَعترف العالم، والقانون الدولي، بأنها محتلة.
لكنها تعوّل على العلاقة الإستراتيجيّة بالدولة التي لا تزال الأفْعَل دوليا، وإقليميا، وهي الولايات المتحدة، كما أنها لا تقلق كثيرا من المواقف الأوروبية الرسمية، كما الموقف الفرنسي، حيث قام وزيرُ الخارجية، لوران فابيوس، بزيارة إلى المنطقة؛ بُغيةَ تحريك عملية السلام، محاولا تغيير وضعيّتها، وتأسيس أسسٍ إضافية لها، ووقف احتكار واشنطن لها.
وبمعزل عن جِديَّة واشنطن في الضغط، أو في دفع إسرائيل، وتحديدا رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، إلى الالتزام الجادّ بإنهاء الاحتلال، وإفساح المجال لدولةٍ فلسطينية، أنْ تنشأ في حدود الرابع من حزيران، وبمعزل، كذلك، عن قدرة الدول الأوربية، مجتمعةً، أو منفردةً، كما تحاول فرنسا، على فرض حلول تحاول أن تبدو أكثر توازنا، فإن دولة الاحتلال تواجه انكشافا، أو على أقلِّ تقدير، ضعفا في دعاويها بالاستمرار في الاحتلال، والاستيطان، والتهويد، ولا سيما بعد أن أفرزت الانتخاباتُ حكومةً أكثر يمينيّة، حتى& إنها وُصفت بأنها حكومة استيطان، وتهويد للقدس.
ويجد هذا الانكشاف تعبيرا له في تنامي حملاتِ حركةِ مقاطعة إسرائيل دولياً، بشكل واضح على الصعيد الاقتصادي، والأكاديمي، وهو ما جعل حكومة نتنياهو تكرّس مبلغ 100 مليون دولار للتصدي لهذه الحملات. أمّا أنها منكشفة، سياسيا،& فهذا يَظهر من خلال المواقف الأمريكية التي هي الأقرب إلى الدعم المطلق لها، حيث يحاول الرئيس الأمريكي، باراك أوباما،(إقناع) الشعب الإسرائيلي بأهميّة السلام، ومخاطر غيابه، على مصير دولة إسرائيل، إذ قال& إنه حال عدم إيجاد حلٍّ "للوضع القائم" بين إسرائيل والفلسطينيين، فإن "التوزيع السكانيَّ، وغضب الفلسطينيين سيُجبِر إسرائيل على الاختيار بين طبيعة دولة إسرائيل وشخصيّتها. وأضاف أنه ثمّة خطورة بشأن فقْدِ إسرائيل "لقِيَمها الأساسية". كما حذّر من إمكانية وجود تبعات دبلوماسية فورية. كذلك قال إنه إذا لم يحدث تقدُّم نحو السلام، فإن ذلك سيؤثِّر على "الطريقة التي ندافع بها عن إسرائيل على المستوى الدولي، فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني". وأشار إلى أن الولايات المتحدة لا يمكن، بالضرورة، أن تعرقل أيَّ جهدٍ أوروبي لعرض حلٍّ للمشكلة الفلسطينية على مجلس الأمن بالأمم المتحدة" وهذه مِن أقوى مواقف إدارة أوباما، وأصرحها. .
وأما الموقف الأوروبي فهو أكثر اقتناعا بهذه العرقلة الإسرائيلية، وما عناصر المبادرة الفرنسية إلا ردود قوية وعملية على هذا التعنُّت والغطرسة الإسرائيلية، حيث تعتزم باريس في حال استمرار " الجمود القاتل" في المفاوضات، تقديم مشروع أُمميٍّ يقوم على استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تحت رعاية دولية ووفق جدول زمني محدد.
وهو ما يرفضه نتنياهو بشدَّة، مُصرّا على الطرح الإسرائيلي التقليدي، ولا سيما في عهد الليكود، واليمين الذي يرفض المظلّة الدولية، أو المحافل الدولية، ويصرّ على التفاوض المباشر، وهو ما يتفق مع الموقف الأمريكي الذي يرفض تدويل الصراع؛ لأنه يتيح لأطرافٍ دولية أخرى المشارَكة الفاعلة. بخلاف دورها في الرباعية الدولية الذي كان أقرب إلى التبعيَّة للموقف الأمريكي.
إسرائيليا، لا خطط لها حاليّاً؛ لإنهاء الاحتلال، أو لحلٍّ تاريخيٍّ للصراع، هذا ما يقوله نتنياهو، فعلا، واستيطانا وتهويدا، وهذا ما يقوله أقطابٌ في حكومته، كوزير دفاعه، موشيه يعالون، مصرِّحاً بأنه" لا يرى إمكانيّةً لتحقيق تسويةٍ مستقرَّة مع الفلسطينيين في حياته، وأنه يجب التوصُّل إلى طريقة لإدارة هذا النزاع، بطريق يمكِّن الطرفين من التعايُش، دون حلّ".
والبديل، إذا صحَّ أن يُسمَّى بديلا، من وجهة نظر نتنياهو هو (الحلول الاقتصادية) وإجراءات ترتدُّ إلى المعيشيِّ واليومي؛ للتغطية على الجوهريِّ، وهو قضمُ الأرض، وتجفيف أسباب البقاء بعيدةِ المدى، ليس لدولة فلسطينية، فقط، بل للوجود الفلسطيني برمًّته.
فلسطينيا، يلخِّص صائب عريقات، مؤلِّفُ كتاب "الحياة مفاوضات" والمستقيل من دائرة المفاوضات، الاشتراطاتِ الإسرائيلية بوصفها بـ"التعجيزيَّة"، وهي وَفْق عريقات:"إضافة إلى شرط رفض خطوط الرابع من حزيران 1967 اشتراط إسقاط قضية القدس، واللاجئين من جدول أعمال المفاوضات، والإصرار على بقاء القوات الإسرائيلية في غور الأردن، والجبال الوسطى، والسيطرة على الأجواء والمياه الإقليمية الفلسطينية ، إضافة إلى شرط ( دولة منزوعة السلاح)".
أما إدارة أوباما، ومن الناحية العملية، فقد غلّبت المكان التقليدي، إذ أعلن البيت الأبيض، مؤخرا، أن سعي الفلسطينيين إلى اتهام إسرائيل بجرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية "ستأتي بنتائج عكسية"، مؤكداً معارضة واشنطن لها. وإن كانت إدارة أوباما قبل ذلك أبدت تردَّدا بين الانكفاء والتنصُّل، (بعد فشل وساطة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري في ربيع العام 2014 ) وبين التحذيرات التي تأخذ صفة النصائح. وربما يرتكن نتنياهو، مستقبلا، إلى أن أوباما (الديمقراطي) ليس بتلك القوّة التي تمكِّنه من رفع الغطاء عن إسرائيل في المحافل الدولية، كالجنائية، وفي الأمم المتحدة، ونتنياهو يعلم مقدار التأييد الذي يحظى به، وسياستِه، في الكونغرس الأمريكي، ذي الأغلبية الجمهورية المعارضة.&
ولكن لعل ما يُقلق نتنياهو أكثر الأوضاعُ في الضفة الغربية والقدس، وقد شهدت القدس قبل بضعة أشهر إرهاصاتِ انتفاضةٍ كانت مرشَّحة للتوسُّع، ومع أن الأوضاع في الضفة الغربية أقلُّ سوءا من الناحية المعيشيّة منها في قطاع غزة، حيث أظهر آخرُ استطلاعٍ أجراه المركزُ الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسحيَّة أنَّ "نسبة الرغبة في الهجرة بين سكان قطاع غزة تبلغ 50 في المئة، في حين أن النسبة تنخفض بين سكان الضفة الغربية إلى25 في المئة." إلا أن الاستفزازات الإسرائيلية، وليست فقط فيما يجري من اعتقالات واعتداءات على الحواجز وغيرها، من جنود الاحتلال، ومن المستوطنين، ولكن في الاحتلال نفسه الذي تزيد وتيرتُه بالاستيطان والتهويد، ومحاولة تقسيم المسجد الأقصى زمانيا، ومكانيا، على غرار الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل.
القضية الفلسطينية أو ما كان يُسمّى الصراع العربي الإسرائيلي أصبحتْ تُدار فقط، لمنع انفجار المنطقة أكثر، وفي هذا النوع من الانفجارات تداعياتٌ تختلف، في وجهتها، وفي تداعياتها المحتملة، عن مفاعيل الصراعات الجارية الآن في العالم العربي، ولذلك كان الهدف الأبرز، أو التحذير الأوضح على لسان فابيوس هو من "الغرق في الأوحال، واشتعال المنطقة". فأقلُّه، فرنسيا، وحتى أمريكيا، "إبقاءُ الأمل باستمرار العملية التفاوضية"؛ فهل تعي إسرائيل المخاطر؟ أم أنَّ انهماك العالم العربي في استحقاقاتٍ مستعصية، وانشغال الإدارة الأمريكية بتبعاتِ دورِها في منطقة مضطربة، يغري حكومة نتنياهو بالأمن، ولو إلى حين؟
&