تذكرني المأساة السورية (فيما تذكرني) بالكاتب السوري الساخر، الصديق مصباح الغفري، الذي رحل عنا منذ حوالي عقد من السنين وهو يناضل بالقلم من اجل سوريا ديمقراطية، وبفضح جرائم نظام حافظ الأسد. غادر الحياة دون ان يشاهد ما حل بسوريا وشعبها في عهد خلف حافظ، ابنه الذي فاق أباه في حرب إبادة المعارضين وبسطاء الناس. كان مصباح، حين عرفته يكتب في مجلة المحرر، مشرفا على صفحتها الساخرة. وهناك نشر بالأسلوب الساخر والمبدع عشرات المقالات والتعليقات في فضح النظام الاسدي (دون تسميته) وفضح نفاق فريق من رجال الدين والمتزلفين. في قطعته الجميلة (العطسه) يشرح النظام الشمولي وعبادة الشخصية بأسلوب مبتكر.
ففي ذات صباح يستيقظ فخامة الرئيس وقد عطس عطسة تناقلت وسائل الإعلام أخبارها. فسارع المفتي ليلقي خطبة عصماء عن فضائل العطسة في الإسلام وبركاتها. وانبرى رجال البلدية لتسمية شوارع وساحات هامة باسم ( العطسة). وتسابق عمداء الجامعات لتخصيص كرسي دراسة بعنوان (العطسة). أما كتاب الأغاني والملحنون فتباروا لكتابة (ياعطسة في خيالي) خلال ذلك اجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي على عجل لدراسة ما وراء هذه العطسة. وإسرائيل امتلأت قلقاً...
من أكثر ما كتبه الغفري سخرية سياسية واجتماعية لاذعة ولكن صادقة. والسخرية المبدعة فن بذاته، في الأدب والسينما والمسرح. وهو بعيد عن قصائد الهجاء العربية وعن التعريض والتشويه والتحريض واختلاق العيوب. وهكذا مثلا العديد من أفلام شارلي شابلن والعديد من مسرحيات عادل إمام .. فضح سياسي واجتماعي ولكن بإثارة الضحك.. والمأساة هنا تكاد ان تتحول الى مثار ضحك ولكنه ضحك يثير، بعد ئذ، التأمل وبمشاعر متضاربة من الغضب والرغبة في تغيير الأوضاع.
هذا النوع من الفن الساخر يوازيه، كقرين له، فن الفكاهة الذي يثير الضحك البريء من اجل الضحك، فأفلام لوريل وهاردي والإخوان ميكس ونجيب الريحاني وعلي الكسار وعادل خيري وميمي شكيب، ومسرحيات يوسف العاني وسليم البصري (صاحب تحت موسى الحلاق).
وفي الأدب العربي الكلاسيكي يبرز الجاحظ ككاتب ساخر، وفي الأدب الحديث هنالك عبد العزيز البشري والمازني ويحيى حقي ونوري ثابت العراقي (حبزبوز) وغيرهم.
لو كان الغفري حيا، ترى ما كان سيكتب عن المأساة السورية وبأي أسلوب ... وماذا يمكن ان يكتبه كاتب ساخر عن الماسي العربية المتلاطمة من العراق وليبيا وسوريا واليمن وسواها وعن غزوات الجهاديين وتسخير الدين لإبادة الآخرين.
كيف وبأي أسلوب لفن ساخر ان يعالج موت الأطفال بالآلاف تحت براميل الموت وتحت الحصار. لم نر بعد من كان منذ القرن العشرين الأكثر وحشية وسفاك دم مثل هتلر وبسببه نزفت شعوب وشعوب دماً وكوارث مأساوية. ولكن شابلن عالج الموضوع في فلم (الدكتاتور) بان جعل ذلك الجلاد البطاش موضع سخرية وازدراء فصار طاغية القرن العشرين مثار ضحك، ولكنه الضحك الذي كان يحفز البشرية على الأمل وعلى القتال لدحر النازية وإعلاء القيم الإنسانية وثمة قصة عن طاغية آخر، انتقم فيها الكاتب من جلاد شعبه بان صوره وبتفاصيل حية، شخصاً رعديداً جباناً، يتستر ويتدرع وراء قواته وزبانيته وحاشيته المتزلفة.. طاغية في التعامل مع البشر، ولكنه في قصره جبان، ما ان تدوي مفرقعة، ولو كانت مفرقعة أطفال، حتى يركض الى الحمام ويغلق عليه الباب بإقفال... زوجته تدق عليه الباب، مطمئنة له، ولكن يصرخ مهتاجاً، وهو يرتعد: (اركضي وهاتي لي سروالا نظيفا، فقد امتلاء سروالي).
وللشعوب في ايام المحن نكات لاذعة تنفس عن المكبوت والهموم، وقد راجت نكات شعبية كثيرة أيام عبد الناصر وأيام صدام. وثمة الكاريكاتير، الذي بإمكان فنان قدير، ان ينطقه بما يغني عن مقالات... مثلاً كاريكاتير في رسمين، مبني على مقولة الفيلسوف ديكارت (أنا أفكر.. إذا أنا موجود) الرسم الأول لمفكر يضع إصبعه على صدغه وهو يقول (أنا أفكر) ثم الرسم الثاني نراه في ملابس السجن، ويكمل الكلام (إذا أنا موجود). اجل لو كان كاتب قدير كمصباح الغفري حياً لأبدع وجدد في الكتابة عن المأساة السورية في الوقت الذي ينضح فيه قلبا دماً ...
فتحية لذكراه.
&