هذه المقالة كتبها المرحوم "الدكتور غازي القصيبي" عقب حرب حزيران الأسود عام 1967م، وقد أثار نشرها في الصحف في ذلك الوقت عاصفة من الإستحسان والإستهجان. وقد أعاد نشرها بعد قرابة ربع قرن في كتابه "الغزو الثقافي ومقالات أخرى" من ضمن 17 مقالة ضمها الكتاب. السبب في إعادة نشرها كما يقول الدكتور، هو أن شيئا ما لم يتغير، ولا تزال الحاجة إلى الدروس كما كانت عليه، وربما أشد خاصة بعد أزمة الخليج.&

وأنا أثني على كلامه، وأضيف أن الحاجة إلى هذه الدروس لا زالت قائمة إلى يومنا هذا بعد 48 عاما من الهزيمة. لذلك رأيت من واجبي الوطني والأخلاقي أن أطلع قراء صحيفة "إيلاف" على هذه المقالة الرائعة وإن بإيجاز، حيث لا تسمح المساحة بعرض المقالة كاملة. وفي نفس الوقت أحث القراء الكرام على قراءة الكتاب لما يحتويه من مواضيع / مقالات رائعة. يقول الدكتور:

"في هذه الأيام الكئيبة التي شهدت وبسرعة لا تكاد تصدق، تحطيم الجيش العربي ومقتل الآلاف من المدنيين والعسكريين العرب، والتغلغل الإسرائيلي الواسع في الأرض العربية، وما يواكب هذا كله من ألم يحز في الكرامة العربية، وحزن يطعن الإنسان العربي في صميم وجوده، يجب علينا أن نفيق من ذهول الصدمة بسرعة تعادل سرعة الصدمة نفسها، حتى لا تتحول الهزيمة المؤقتة إلى هزيمة دائمة، وحتى لا يتحول الذهول إلى جنون، وحتى لا يصبح رد فعلنا عملا عشوائيا عفويا يزيد الفاجعة عمقا ويوسع آفاق المأساة.

إن الهزيمة في حد ذاتها أمر مألوف في حياة الشعوب. هل من أمة على الأرض إستطاعت أن تعيش بدون أن تعبر تاريخها فترات تشهد إحتلال أراضيها ومقتل أبنائها وتمزيق أعلامها؟ ألمانيا، المزدهرة اليوم، هل كانت قبل أعوام سوى خرائب وأنقاض وبقايا إمبراطورية يتصاعد منها الدخان؟ وفرنسا، التي يرمقها العالم بإعجاب اليوم، هل كانت قبل أعوام سوى دولة إكتسحتها جحافل الغزاة وقضت في أيام معدودة على جهاز عسكري إستغرق بناؤه عشرين سنة؟&

الهزيمة أمر مألوف وطبيعي، ولكن الهزيمة القاتلة هي ألا نقف عند التجربة المريرة لنتساءل "كيف ولماذا وقعت؟"، ولنكتسب دروسا، ولنختط خطة جديدة. الهزيمة الحقيقية هي أن نستمر في طريق لا يحمل سوى الهزائم. ولا يمكننا أن نبدأ في هذا ما لم تكن الخطوة الأولى على الطريق هي إستيعاب دروس الهزيمة.

الدرس الأول: الذي يجب أن نتعلمه من الهزيمة هو مواجهة الحقائق. يقول البعض، من عرب وغير عرب، أن في الشخصية القومية العربية نفورا من الحقائق وولعا بالأوهام. ولعل هذا يتضح إذا راجع كل منا نفسه. يشعر العربي بأعراض المرض فلا يذهب إلى الطبيب لأنه يخشى أن يقول له "أنت مصاب بالسرطان"، وكأن السرطان يشفي نفسه بنفسه إذا تركناه وشأنه. العربي لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة ولكنه يصنعها ويلبسها اللباس الذي يشتهيه، حتى إذا ما سعت إليه وأيقظته من منامه، وأطلت في وجهه شوهاء كالغول أغمض عينيه وتخيلها حسناء كالقمر.&

وتطوعت اللغة العربية، فسمت الهزيمة الصاعقة "نكسة"، وسمت الإنسحاب "إحتلال مواقع بديلة"، وسمت خطة العدو العسكرية المحكمة "ضربة غادرة". وبعد ذلك كله جاء الإستسلام، وقف إطلاق النار على هيئة نصر حققه العرب "إستجابة" للرأي العام العالمي ونداء مجلس الأمن. والهروب من الحقائق يقود بحتمية لا مناص منها إلى الإرتماء في حضن الأوهام، وما أكثر الأوهام التي عبثت بعقولنا في تلك الأيام العصيبة. وأنا أضيف أن الأوهام لا زالت تعبث بعقولنا حتى يومنا هذا.&

الدرس الثاني: هو إتخاذ رد الفعل المناسب تجاه الحقائق. والعربي عقدة العقد وأعجوبة الأعاجيب في ردود فعله. لا يمكن توقع رد الفعل العربي لأنه لا يعتمد على المنطق بقدر ما يعتمد على العاطفة وفورة الشعور. العربي يغضب حين ينبغي أن يهدأ، ويهدأ حين يجب أن يغضب. العربي يقابل اللطمة بالإحتجاج، ويقابل النصيحة باللطمة. والعربي يعتقد أنه بقدر ما يكون رد فعله منفعلا وصاخبا بقدر ما يكون فعالا وقادرا على مواجهة الموقف.&

الإنسان العاطفي لا يمكن أن يكون إنسانا فعالا. الجراح يودي بحياة مريضه إذا كان قلبه يتمزق حسرة عليه، وأصابعه ترتجف في غمرة العاطفة. والجندي لا يستطيع إصابة الهدف إذا كانت الحماسة تهزه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. والعالم لا يستطيع أن يصل إلى كشف علمي إذا كان يبرق ويرعد ويضحك ويبكي ويصرخ ويهمس وهو منكب على أنابيبه وقواريره في المختبر.

لقد طال المدى بردود فعلنا العاطفية. طالما رددنا على المصانع بالقصائد، وعلى المنجزات بالخطب، وعلى الجامعات بالمقاهي، وعلى الخطط بالأدعية، وعلى العلم بالأحجبة، وعلى التخطيط بالتخبط. لقد آن أن نتعلم فن ردود الفعل المنطقية. ورد الفعل المنطقي يتطلب قبل كل شيئ التفكير الهادىء المتزن، وهذا التفكير يدرك أن المظاهرة لا تغرق البارجة، والشجاعة لا تسكت صوت المدفع، واللعنات لا تصيب الطائرات فتسقطها.

الدرس الثالث: هو الإعتماد على العلم. إننا نعيش شئنا أم لم نشأ في عهد العلم ولن نستطيع أن نعيش فيه بعقول تصلح لعهود السحر. والإعتماد على العلم يقضي بإحترام التخصص. وويل لأمة علماؤها الأدباء، وعسكريوها الخطباء، ومهندسوها قارئو الكف. ويل لأمة تمجد الدجال وتنفر من الباحث، تطرب للأشعار وتهرب من البحث العلمي. ويل لأمة تضع شأن العلم وتقدس الجهل.&

إننا نتساءل اليوم، وكان علينا أن نتساءل بالأمس وقبل الأمس، لماذا لم يحدثنا إخصائيونا عن قوة إسرائيل الحقيقية؟ ألم يكن في العالم العربي خبير عسكري واحد؟ لماذا لم يشر أحد إلى نقاط الضعف القاتلة في الجيوش العربية؟ لماذا لم تدرس المدارس العربية في كافة مراحلها قضية فلسطين وجغرافيتها وتاريخها؟ لماذا خلت المكتبات العربية من كتب عن نظام إسرائيل الإقتصادي والسياسي وآلتها العسكرية؟ لماذا لم نسمع صوتا واحدا يشرح لنا إستراتيجية إسرائيل؟ الجواب عن هذه الأسئلة وعشرات أمثالها، أن عقولنا لم تدخل بعد مرحلة العلم. عقولنا تؤمن أننا إذا تمنينا الشيء بعنف، فإنا الشيء الذي نتمناه سوف يصبح حقيقة واقعة.

آن للساسة أن يستريحوا قليلا فلقد أرهقهم العمل، آن أن يفسحوا للإقتصادي المجال ليقول رأيه في الإقتصاد، ولخبير التربية في نظام التعليم، وللعالم في مجال البحث، وأن يضعوا الضابط في الثكنة حيث ينبغي أن يوجد. آن أن نغفر لإخصائي القلب عدم نضجه السياسي، ولعالم الذرة مراهقته الفكرية.

الدرس الرابع: هو مبادئ السياسة الدولية. وأهم حرف في هذا الدرس هو أن الدول تضع سياستها وفق مصالحها كما تراها، ولا تتصرف كما يتصرف الأفراد وفق الإستلطاف أو الإستثقال أو العداوة أو الصداقة. لا توجد دول شريرة ودول خيرة، هناك دول تتناقض مصالحها مع مصالحنا ودول تنسجم مصالحها مع مصالحنا. لا توجد في العالم كله دولة تحب العرب ولا دولة تكره العرب. هناك أطوار وأدوار تتغير مع تغير الظروف والمصالح.

يضطر الساسة أحيانا إلى شحن الجماهير بالشعارات، ولكن المأساة تبدأ عندما تتحول هذه الشعارات إلى مبادئ تطبقها السياسة الخارجية للدولة. السياسة الخارجية الحكيمة تعرف أنه لا يوجد في الدول أبيض أو أسود، صالح أو طالح، ولا يوجد في العلاقات الدولية نصر سريع. إن العمل السياسي الدولي الفعال، كان وما يزال ويظل، قائما على المساومة والمناورة وأنصاف الحلول والعمل الصامت. العمل السياسي الفعال يرسم أهدافه بواقعية في ضوء مصالحه وفي حدود إمكانياته، ثم يستخدم هذه الإمكانيات لتحقيق أهدافه بهدوء وأدب. كما يجب أن نتعلم، على مستوى الأمة العربية، كيف نتعايش ونتعاون رغم خلافاتنا. فالعمل المشترك الفعال لا يقوم على مبادئ مشتركة، كما يتوهم الواهمون، بل يقوم على مصالح مشتركة.&

الدرس الخامس: وهو المزيد من الحرية. ولعله أكثر الدروس أهمية وخطورة. يرى بعض الباحثين أن في الشخصية العربية جنوحا إلى الإستبداد نتيجة تاريخ طويل من إنعدام الحريات. لقد بذرت بذور الإستبداد في المجتمع الجاهلي بذوبان شخصية الفرد ذوبانا كاملا في مواجهة القبيلة. بإنتهاء فترة الخلافة الراشدة توالت على المسلمين سلسلة من دول ودويلات وكان صاحب السلطة عبر هذا التاريخ الطويل، إلا فيما ندر، لا يعرف حدودا لسلطته. تبع ذلك إستعمار غربي خنق ما تبقى من حريات وأنتهى بنا الأمر إلى "إستقلال" الأوطان دون "إستقلال" المواطن.&

يجب أن ندرس تاريخنا من جديد ونحلله بموضوعية، لندرك أنه لم يكن سجلا من الفتوحات الرائعة والإنتصارات المجيدة فحسب كما نعلم طلابنا في المدارس، بل تضمن بالإضافة إلى صفحاته المضيئة العديدة، صفحات مظلمة تضمنت إهدارا لآدمية الإنسان المسلم وسحقا لكرامته. في تاريخنا كتب أحرقت، وعلماء جلدوا، ومفكرون صلبوا لأن أصحاب الموقف لم يتفقوا ولو في جزئية صغيرة مع تفكير السلطة الحاكمة. يجب أن ندرس تاريخنا من جديد بعناية وتجرد، لندرك الصعوبات الهائلة التي يجب أن نتغلب عليها لكي نصل إلى الحرية الحقيقية: حرية الحصول على لقمة الخبز، وبعد ذلك حرية المرء في أن يعتنق ما يشاء من فكر.

لقد قيل لنا – وصدقنا – أن العرب لا يصلحون للحرية، فانتقلنا من وصي إلى وصي جديد، وعوملنا مثل الصغار البلهاء فأعطينا الألعاب تارة، وقوبلنا بالضرب والتوبيخ حتى إستسلمنا لمصيرنا وألفنا تقديس الأشخاص وتحللنا من كل مسؤولية. أدمنا تخلفنا فتبجحنا بالكرامة ونحن مجردون منها، وتغنينا بالتراب الذي لم نشعر فوقه إلا بالمذلة والهوان.

إن مواجهة الحقائق بصراحة وشجاعة، وإتخاذ رد الفعل المناسب إزاءها بلا إنفعال ولا تشنج، وإعتماد العلم منهجا للعمل والتفكير، وإدارة السياسة الدولية والعربية بوعي وذكاء، والقيام بذلك كله في جو من الأمن والحرية والطمأنينة يعني – لو تم – أن هذه الهزيمة المريرة سوف تكون مفتاح المستقبل المؤدي إلى إنتصارات مجيدة". إنتهى الإقتباس.

أقول بأسف شديد: يا أبا سهيل، أنه وبعد 48 عاما من الهزيمة النكراء، لم نتعلم ولا درسا واحدا من الدروس الخمسة الرائعة التي طرحتها. الأمة العربية هي اليوم في أسوء مراحلها التاريخية، تكالبت عليها الأمم الأخرى القريبة منها والبعيدة، متخلفة في كل مجالات الحياة، وشعوبها تقاتل بعضها البعض، وتدمر أوطانها وتحرق ثرواتها.&

آخر الكلام: قال موشي ديان، أن إسرائيل إتبعت سنة 1967 في إحتلال سيناء نفس الخطة التي إتبعتها سنة 1956 والتي ناقشها بالتفصيل في كتابه حرب السويس. وأضاف أنه كان مطمئنا إلى أن العرب سيفاجأون بها "لإنهم لا يقرأون". وقد صدق وإنه لكذوب.

&