في العاشر من شهر يونيو/ حزيران من العام الماضي عرف العراق والولايات المتحدة الأمريكية كابوساً مخيفاً عندما استولى ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميًا باسم (داعش) على مدينة الموصل ثاني أكبر وأهم مدن العراق، سيطر التنظيم بسلاسة وهدوء وبلا معارك عنيفة على المدينة وأهم منشآتها الحيوية وفر آلاف الجنود من الجيش العراقي وقبلهم قادتهم وتركوا عتادهم الأمريكي شديد الحداثة ليأخذها التنظيم مجانًا، كان الأمر وما يزال شديد الغرابة، وتبارى كبار محللي السياسات الدولية في الولايات المتحدة وأوروبا في محاولات متتابعة لتفسير ما حدث منطقيًا، كان هناك سؤال شغل وحير الجميع إذ (كيف يفر الآلاف من جيش نظامي تاركين أسلحتهم الثقيلة أمام بضعة مئات من المقاتلين المسلحين بأسلحة خفيفة ومتوسطة؟!
في الفترة من 2003 وحتى العام 2014 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء جيش الدولة العراقية، أنفقت عليه ما قُدر بخمسة وعشرين مليار دولار وهو الرقم الأمريكي الرسمي، أما التقديرات التي يؤكدها بعض المحللين السياسيين فتصل لمائتي مليار دولار وهو مبلغ يمثل الناتج المحلي لبعض الدول النامية، نفقات ذهبت للتسليح وتدريب الأمريكيين والرواتب وما إلى ذلك، كل ذلك لا يمثل ثلث المبلغ حتى، ومليارات الدولارات بسبب الفساد أنفقت على لا شيء بكل معنى الكلمة، وكان ذلك من أهم أسباب سقوط الموصل وعدم قدرة أي أحد بعدها وعلى مدار عام كامل سواء مستشاري الولايات المتحدة العسكريين أو الجنود العراقيين أو المرتزقة على هزيمة تنظيم الدولة أو افتكاك الموصل لثلاث محاولات حربية عنيفة متتالية!
وصل تعداد الجيش العراقي – في مرحلة ما بعد الاحتلال – منذ أربعة أعوام إلى مائتين وخمسين ألفًا رسميًا من دون ذكر قوات الشرطة شبه العسكرية، لكنه على أضعف التقديرات لن يقل عن مائة وخمسين ألف جندي، ويلعب نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق دورًا مهمًا في تحويل هذا العدد إلى أصفار على اليسار!
مع تصاعد المد الشيعي واضطهاد السنة خاصة في مرحلة ما قبل داعش، كانت وزارة الدفاع الأمريكية تعاني في تجنيد وجذب العراقيين للانضمام للجيش، وكانت تقوم بالضغط على الحكومة العراقية لتجنيد أكبر قدر من المقاتلين، لم تجد الحكومة العراقية دافعًا يصلح للجذب غير المال في بلد يعاني في مرحلة ما بعد الغزو وحتى الآن، لكن أغلب المنضمين كانوا شيعة بينما وبشكل ما امتنع الكثير من رجال وشباب العشائر السنية عن الانضمام للجيش النظامي تبعًا لموقفهم شديد الحدة من حكومة نوري المالكي التي رعت بشكل رسمي عنف الشيعة العراقيين تجاه السنة، مع كل هذه الصعوبات لم يحاول نوري المالكي تدعيم الوضع وإنما فرغ الجيش من وحدته الأهم والأخطر (ISOF) أو قوات العمليات الخاصة العراقية (جنود النخبة).
قوات النخبة العراقية هم جنود جهزوا ودربوا خصيصًا لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية عن طريق مستشارين عسكريين ومدربين من المارينز، من المفترض أن مكانهم جبهات المواجهة لكن نوري المالكي قام بتفريغ القوات العراقية من جنود النخبة واستخدم معظمهم في العاصمة لتدعيم نظامه الحاكم والدفاع عنه، بينما ترك الجنود غير المنظمين لمواجهة مقاتلي داعش وهو أمر شديد الصعوبة لارتفاع مستوى تنظيم الدولة القتالي وقدرات جنوده الفردية.
بعد قرار أوباما الأخير في يونيو الفائت بإرسال 450 شخصًا – قال عنهم البيت الأبيض أنهم مجرد مستشارين لتقديم النصح للقوات العراقية مع جنود للتأمين لا أكثر – فإن الأمور في العراق تتضح حدتها ومدى المأزق الأمريكي في مواجهة داعش مع قوات عراقية لا يعتمد عليها، الحشد الشعبي يحاول منذ شهرين اقتحام محافظة الأنبار التي يسيطر عليها تنظيم الدولة وفشل فشلًا ذريعًا يثير تساؤلات المقارنة بين حجم قوات الحشد الشعبي وتسليحهم ومعاونة الولايات المتحدة في الجانب الاستخباراتي وبين الحجم القتالي لتنظيم الدولة، وفي الوقت الذي استولت فيه داعش على الرمادي أكبر مدن محافظة الأنبار تواجه الحكومة العراقية الفشل تلو الآخر لثاني مؤسساتها الأمنية بعد الجيش النظامي التي تقدر ميزانيتها بستين مليون دولار.
تحاول الولايات المتحدة حاليًا تدريب قوات الحشد على استخدام استراتيجية (Ink Blots) أو نقاط الحبر، هذا المصطلح كان أول من نشره هو الكولونيل المتقاعد (أندرو كريبينفيتش) بلفظة أخرى وهي (Lily pads)& أو منصات الزنبق “نوع من النباتات” في مقال له في عام 2005 نشر في فورين بوليسي وهي أسوأ أيام الولايات المتحدة في العراق حيث عانت من تكثيف هجمات المقاومة العراقية على قواعدها وقوافلها العسكرية.
تعتمد الاستراتيجية على نفس طريقة انتشار أوراق الزنابق على سطح الماء، حيث يتم تركيز القوات العسكرية المهاجمة على مساحة معينة ليست ضخمة من الأرض حتى فكاكها من القوات المسيطرة عليها، بعدها يتم إنشاء منطقة آمنة يتم فيها إحكام السيطرة بحيث تقل احتمالات تلفت هذه المنطقة مرة أخرى إلى حدها الأدنى، بعد تمام السيطرة يتم اتخاذ هذه المساحة / المنصة نقطة انطلاق لمساحة ثانية، وهكذا على الترتيب حتى إقامة شبكة كاملة من المنصات العسكرية المحكمة والمؤمنة جيدًا.
ما تستخدمه الولايات المتحدة حاليًا قد يصلح مع جيش نظامي مواجه، لكن تنظيم الدولة ليس كذلك، هو كيان يقاتل بأسلوب العصابات وبقوة وتكتيك وقدرات وأسلحة ومعلومات جيش نظامي وهو ما يعطيه مزيجًا مختلفًا، مزيج ربما لا تبدو نقاط الحبر الأسلوب الأمثل لمواجهته، فهذه الاستراتيجية فشلت في أفغانستان، فما النجاح الذي يرجى منها في العراق ليستخدمها البنتاغون مرة أخرى؟!

هشام منوّر... كاتب وباحث
&