العشرات من طائرات الجيش التركي شنت ليلة أمس هجمات واسعة على جبال قنديل حيث تتواجد مواقع حزب العمال الكردستاني. هذا التصعيد الكبير من جانب حزب العدالة والتنمية، ومن جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يأتي على خلفية الأزمات الداخلية والخارجية التي تشهدها تركيا. فعلى الصعيد الداخلي فشل حزب العدالة والتنمية في الحصول على الأغلبية التي تخوله لتشكيل الحكومة لوحده، وحصل هذا لأول مرة منذ 13 عاما. على الصعيد الشخصي: فشل الرئيس أردوغان في تمرير القانون الرئاسي الجديد، الذي كان يعول عليه لكي يوطد صلاحياته الفردية المطلقة وبشكل ديمقراطي متآت من ممثلي الشعب. السبب وراء فشل حزبه، وفشله هو شخصيا بالتالي، كان الانتصار الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطية ( الذي يوصف بانه الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني)، وحصوله على نسبة 13% من الأصوات، مع تحقيق الأغلبية المطلقة في ولايات كردستان الشمالية(جنوب شرق تركيا). هذا النصر السياسي، كان سبقه نصر عسكري في كوباني، لفت أنظار كل العالم إلى المقاومين الكرد الذين يلحقون الهزيمة بمحاربي "داعش" الزاحفين على الجغرافيا، والذين قهروا جيشي سوريا والعراق في العديد من المناطق. في هذه الأثناء كانت الصحافة الدولية تعج يوميا بالمقالات والتحليلات حول علاقة حزب العدالة والتنمية مع تنظيم "داعش"، والدعم العسكري واللوجستي الذي يتلقاه الجهاديون العنيفون من حزب العدالة والتنمية وقياداته.

إزاء المعادلة الكردية الجديدة المتصدرة سياسيا وعسكريا، والتي كانت السبب وراء تحجيم حزب العدالة والتنمية ووضع قيود على يدي أردوغان، بالاضافة إلى بروز بوادر انشقاقات في صفوف الحزب، وبين القادة المؤسسين انفسهم، بدأ أردوغان يضع معالم خطة جديدة. خطة أردوغان الجديدة تقوم على رفض تشكيل حكومة وحدة وطنية مع احزاب المعارضة، واللجوء بدل ذلك إلى الانتخابات المبكرة. ولكي يحقق أردوغان وحزبه نتائج أفضل تخولهما من تشكيل الحكومة وفرض قانون النظام الرئاسي الجديد، فيجب الحصول على اصوات كتل كبيرة داخل الجماهير. وبما أن حزب الشعوب الديمقراطية حصد أصوات الكرد، ومن المستبعد أن يبادر الكرد للتصويت لأردوغان وحزبه بعد موقفهما من مقاومة كوباني ودعمهما لتنظيم "داعش" علانية وعيانا، بينما حافظ حزب الشعب الجمهوري على أصوات كتلته، وما يزال متصلبا فيما يخص سياسة حزب أردوغان إزاء الملف السوري، وتقييد صلاحيات الرئيس ومحاسية اولاده وحاشيته في ملفات الفساد والانتهاكات. بقي أصوات كتلة حزب الحركة القومية المتطرف. هذا الحزب حصل على 16% وخطابه تركز على ضرورة وأد "مشروع السلام" مع الكرد، ورفض منحهم أي حقوق قومية وإدارية، وإعلان الحرب ضد حزب العمال الكردستاني. الواضح الآن في ظل رفض تشكيل حزب العدالة والتنمية لحكومة إئتلافية، وتصعيده السياسي والعسكري ضد&الكرد( بما في ذلك ضلوعه المحتمل في مذبحة سروج، والتي ذهب ضحيتها 32 شابا، وقصفه لجبال قنديل بهذا الشكل العنيف)، بأنه بات يستهدف أصوات كتلة حزب الحركة القومية، وهو يمضي سريعا في التصعيد لكي يهيئ الأرضية المناسبة لإستقطاب هذه الأصوات، بوصفه الحزب الذي يقاتل "الانفصال الكردي" داخليا وخارجيا، ويعتمد على الآلة العسكرية بدون رحمة.

حسب قراءة حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان فإن تركيا سائرة نحو انتخابات مبكرة، والهدف هو الحصول على أصوات كتلة حزب الحركة القومية، وبالتالي الحصول على الأغلبية من جديد لتشكيل الحكومة، وإحداث التغيير الرئاسي المطلوب. لكن هذا يعني إعلان الحرب على الكرد والعودة إلى المربع الأول. وهنا تأتي "السياسة الجديدة" بالنسبة للتعامل مع "داعش" وتحريك بعض القطعات العسكرية، واحداث بعض المناوشات مع الجهاديين، على أن يكون ذلك لمحاربة "الإرهابيين الدواعش والأكراد الانفصاليين" معا!. وهذا التحرك ضد "داعش" يستهدف التصدر الكبير للكرد في داخل وخارج تركيا. يستهدف السمعة العالمية التي حققتها القوات الكردية في كوباني، وعند إنقاذ الكرد الإيزيديين في سنجار. الهدف هو ربط هذه القوات بتنظيم مجرم هو "داعش"، والذي ما كان له ليكون بهذا الحجم لولا سماح حزب العدالة والتنمية للآلاف من الجهاديين القادمين من كل العالم بالوصول إلى مناطق "دولة الخلافة" عبر تركيا والانضمام إلى صفوفه. هذا ناهيك عن الحاضنة الشعبية الكبيرة داخل تركيا، والتي تشرف عليها جمعيات مرتبطة بالاستخبارات وأجهزة الحزب الحاكم.

الحرب التركية على الكرد سوف تتوسع. حزب العدالة والتنمية وجد في إعلان الحرب على الكرد وإدخال البلاد في نفق مظلم، خلاصا لنفسه من الفشل والانكماش. لقد هرب من الاستحقاق الديمقراطي إلى افتعال أزمة داخلية وخارجية ليورط كل البلاد، بملايينها الثمانين، في مواجهات أهلية خطرة. التصعيد العسكري وعمليات قتل الكرد وقصف مدنهم، ستقابل برد عسكري من جانب حزب العمال الكردستاني. وهذا الأخير أقوى بكثير مما سبق. لديه الآن عشرات آلاف المقاتلين الجدد، وإلتفاف كردي غير مسبوق، وتعاطف دولي، بوصفه الجهة الأقوى في التصدي ل"داعش" والدفاع عن المدنيين العزل. الآن تركيا المتورطة في دعم "داعش" والتغطية عليه، تقاتل الجهة التي ألحقت الهزيمة به.

الكرد الذين ارسلوا 80 برلمانيا إلى أنقرة على امل المساهمة في حل القضية الكردية حلا سياسيا عادلا واسكات السلاح، وقالوا إنهم سيتوجهون إلى انقرة لممارسة السياسة وليس إلى الجبال لحمل السلاح، وظلوا متمسكين بكل نداءات زعيمهم عبد الله اوجلان في وقف اطلاق النار، سوف يكون لهم خيار آخر، في ظل رفض الحكومة على التحاور مع برلمانييهم والاصرار على رهان الحسم العسكري. من بين خيارات حزب الشعوب الديمقراطية مغادرة أنقرة والقدوم إلى العاصمة الاقليمية الكردية ديار بكر وإعلان اقليم كردستان الشمالية (Bakurê Kurdistanê) على غرار الاقاليم الكردية الثلاثة في روج آفا/سوريا. الاقليم سيشمل 14 محافظة كردية حقق فيها حزب الشعوب الديمقراطية فوزا ساحقا في الانتخابات البرلمانية الماضية على حزب العدالة والتنمية( 50 برلمانيا لحزب الشعوب الديمقراطية مقابل 9 لحزب العدالة والتنمية)، وسيكون هذا القرار مدعوما من كل الكرد، ومرفقا بطلب دعم وتفهم دولي، سيما وانه يرتكز على قاعدة ديمقراطية واضحة، ويأتي كرد فعل على سياسة الدولة التركية التي ترفض الحوار مع الكرد في البرلمان المركزي، وتعمل على قصفهم بالقنابل والتعامل معهم عبر"الحل الأمني/الحربي"، ومحاصرتهم، والاستعانة حتى بتنظيم "داعش" للنيل منهم واضعافهم.

تبدو تركيا مقدمة على أيام مظلمة. حزب العدالة والتنمية يريد الانتصار في الانتخابات المبكرة القادمة مستفيدا من اصوات القوميين المتطرفين، وتشكيل حكومة حرب تواجه الشعب الكردي داخل وخارج البلاد. حزب العمال الكردستاني سيرد بكل قوة ليحمي الشعب الكردي ويمنع مخطط الابادة بحقه. يبدو أن تركيا المتنوعة مذهبيا وأثنيا ستغرق في مستنقع فوضى كبيرة، وربما تصل إلى حال شبيهة بحال العراق وسوريا. وكل ذلك من أجل ان يبقى ديكتاتور متفرد فاسد يرعى الإرهاب الداعشي أسمه رجب طيب أردوغان على سدة الحكم. ان يبقى بالحديد والنار. ان يبقى حتى ولو ادى ذلك إلى "حرق البلد" وكل من فيه...