مع بداية القرن الواحد العشرين كانت صور عملية قتل الطفل محمد الدرة صاعقة للجميع وخلقت حالة ذهول وصدمة لدى الكثيرين حول الوحشية التي وصلها جنود الاحتلال الإسرائيلي بتعاملهم مع الفلسطينيين، الصور الصادمة التي دارت العالم للتحدث عن الوحشية في القتل بدم بارد هزت مشاعر العرب والمسلمين الذين خرجوا صراخاً وغضباً منددين ومقهورين من قسوة جرائم الاحتلال.

بعد سنوات لم يختلف فيها التعاطي الإسرائيلي مع الفلسطينيين لكن الصورة اختفت جراء الهدوء المشبع بالهزيمة والسكون القابل بحقيقة الفشل صار لإخبار الموت العادي بالرصاص أو قذائف وصواريخ جيش الاحتلال وقع الفعل المماثل للموت بحوادث الطرقات التي نترحم فيها على الضحايا ونحلل كيف يمكن التخفيف من عددها لكن الحوادث دائما تتكرر ويموت ضحاياها بصمت.

ما الذي تغير بين حوادث القتل بيد الإسرائيليين مرة بيد الجنود ومرة بيد المستوطنين فقط صارت صورة الجريمة عادية وضاع منها الاستثناء ففي كل العواصم العربية التي مر منها قطار الخراب العربي تسابق القتلة في التنكيل بالأبرياء ولم يعد الإرهاب إسرائيلياَ فقط بل صار إسلامياً بامتياز والجريمة التي كانت تهز العرب والمسلمين لبشاعتها لم تعد تحرك المشاعر فقد ارتكب ما أشنع منها بيد من نصبوا أنفسهم ممثلي لله على الأرض وحاكمين باسمه.

الرضيع الذي مات حرقاً ووالدته ووالداه اللذان احترقا معه، شكلوا هزة جديدة لوجدان الفلسطيني الذي أصبح تفاعله مع الحال الذي وصل إليه عادياَ فلم يعد الاحتلال في الضفة أمراً مقلقا ولم يعد حصار غزة مثيرا فقد تعودوا حتى صار الحديث عن المطالبة بتغييره أمراً يثير الاستغراب.

التراخي الفلسطيني لا يميز بين سلطتي رام الله وغزة سوى باستعمال عبارات الشجب والتنديد والاستنكار فواحدة تصرخ لتدخل دولي لن يأتي وتهدد بالذهاب لمحكمة الجنايات الدولية دون فهم أن ما جرى لا علاقة له باختصاصها، ويوضح جهلاً مخيفا في المستوى السياسي والذي ربما يعتبرها محكمة قضاء عادي يمكن أن نذهب للشكوى فيه مع كل مشكلة تفتعلها إسرائيل، وفي غزة هبت صرخات الجهاد والدعوة للثأر والانتقام مع التشديد أنهم سيحافظون بكل قوة ومهما تكون النتائج على هدوء يحافظ على الحال كما هو عليه في انتظار قادم لا يعرفون كيف يكون بل يعيشون مرحلة حكم حماس يوماً بعد يوم إلى أن يقضي الله أمره.

اليأس من الحال الفلسطيني صار معمماً وغياب الاهتمام به صار قاعدة في انتفاء صورة المناضل في مواجهة المحتل وإمتاعنا بحكايات تحيي تواريخ البطولات فينا بينما الأمل بقيام دولة فلسطينية صار أضغاث أحلام من يوهمون أنفسهم أن السلام سيأتي يوماً إلى أرض السلام.

تقسم الفلسطينيون لدولتين وهميتين واحدة تحت الاحتلال تمارس سلطة إدارة شؤون الناس بأقل الخسائر لإسرائيل وتسجل كل يوم تمدد الاستيطان وسرقة الأراضي وتحول النموذج لما يشبه نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا بفارق أن للسلطة علم ورموز ومال يأتي من الاحتلال ومن يتكرم بمساعدة الفلسطينيين ليعيشوا ويتعايشوا مع واقعهم بكل ما في مباهج الحياة على النمط الاستهلاكي الإسرائيلي من متعة، أما في غزة التي صارت فيها أحلام الناس لا تخرج عن وصول الكهرباء لساعات على أمل شحن هواتفهم الجوالة وغسيل ملابسهم وانتظار معجزة لا يبدو أنها قادمة تخرجهم من اليأس الذي وصلوا إليه وقبلوا أن يلقوا بأنفسهم في قوارب الموت للهروب من الموت البطيء في ظل حركة حماس الإسلامية.

رحل الرضيع محترقا بنار المستوطنين وقبله سقط وزير الحكم المحلي خلال الصدام مع الجيش الذي يحمي المستوطنين ومثل العادة التي صارت تميز الوضع الفلسطيني سيهب الجميع غاضبين منددين لعدة أيام ثم تأكل هموم الدنيا الناس وتأكل هموم السياسة السلطة ويدخل الموضوع في طي النسيان.

في انتظار موت جديد يعيد تحريك الهمم الراكدة يسير الفلسطينيون إلى قدر حفروا خاتمته بأيديهم في مرحلة لا توحي بما يمكن أن يغير واقع أن القضية دخلت مرحلة الشيخوخة بكل مستوياتها من التصحر بالفكر والرؤية للقضية إلى الفعل القادر على صنع البديل، ولا يبدو في الأفق من حل سوى إعلان نهاية رسمية لحلم الدولتين وافتتاح زمن جديد بتفاصيل مختلفة ومعاني جديدة للحياة التي لن تتوقف أبداً عند المحطات.&