مدينتي الصغيرة في حجمها والعميقة في جذورها والكبيرة في أحداثها وتاريخها والأليمة في مآسيها، يتعايش فيها خليط من مكونات العراق، كثر من الكورد الايزيديين والمسلمين أقل، لكن فيهم الشيعة غالبة والسنة أقلية، عرب عاربة ومستعربة لم يستقدمهم البعث بل استخدمهم رغم أقليتهم، معهم في أصل المدينة الآشوريون والكلدان، مسيحيون على مذاهبهم الشتى، كاثوليك وارثيدوكس وأرمن من الطائفتين، مدينة أجمل مبانيها حتى ساعة سقوطها عديد من الجوامع المتقاربة مع كنائس قديمة متاخمة لمزارات ايزيدية، لم يبق منها داعش اثر، فسوى بها الأرض مع مساجد الشيعة ومزاراتهم وجوامع السنة التي احتوت أضرحة بُناتها.

مقدمة مقتضبة عن مدينة سنجار ( شنكال ) التي مزقتها داعش ودمرت غالبية مبانيها وأطفأت أنوراها وأسكتت مآذنها ونواقيس كنائسها، وهجرت غالبية سكانها الأكثر من ربع مليون نسمة، حينما استعبدت من وقع منهم في الأسر، سبايا وجواري وغلمان وعبيد، في واحدة من أتعس وأقذر ممارسات التاريخ القديم للبدائية البشرية، في مدينة لم تك تعرف الفرق بين الكوردي والعربي والكلداني وأديانهم إلا في المناسبات التي تخصهم قوميا أو دينيا، حتى ظهرت فيروسات البعث العنصري، فمزقت ذلك النسيج ودمرت تلك المشاعر الرابطة، حيث استخدم البعث في تطبيق برامجه اللا آدمية شذاذ الآفاق من المنحرفين الأميين والمتخلفين المعدمين من سكان الصحراء والقرى النائية المحرومة أساسا من ابسط مقومات الآدمية، ليبرمجهم ككائنات متوحشة منفلتة من جوع وعوز وامتهان، مستخدما عقائد منحرفة تعتمد السادية والانتقام أساسا في سلوكها، حتى حان وقت إطلاقهم فبدأت غزوتهم في الثالث من آب 2014م على سنجار الآمنة المتعايشة المتصالحة، مدينة كل الأديان والمذاهب والقوميات والاثنيات، فمزقوا صباحاتها بنافورات من الدماء والأشلاء وصراخات الصبايا والأمهات المسبيات، وأقاموا أسواق النخاسة في تلعفر والموصل والفلوجة والحويجة والرقة ومعظم المدن المستباحة لفتيات ونساء تم سبيهن تحت صيحات ربهم الأكبر بعد أن نحروا آبائهم وأزواجهم وإخوانهم.

إن انهيار هذه المنظومة من القيم الإنسانية والحضارية، وتبخر وشائج العلاقات الاجتماعية لدى أناس فقدوا كل ما له علاقة بإنسانية الإنسان وتمدنه، أدى إلى خطف الآلاف من الأسر، وقتل رجالهم وشبابهم أو إدخالهم في عقيدتهم، واعتبار النساء غنائم حرب كسبايا وجواري تم بيعهن في مزادات بأسواق المدن المستباحة، حيث لم ينفع المسلم الشيعي أو السني دينه ومذهبه، ولم يتذكر هؤلاء الهمج طيبة ومواقف الايزيديين والمسيحيين عبر التاريخ معهم وفي أيامهم الحالكة، فأنتجت جريمتهم خلال عدة أيام في مدينة سنجار ( شنكال ) هذه البانوراما الرقمية لضحاياهم:

لقد خطفوا 5838 شخصا جلهم من الأطفال والنساء وتسببوا في فقدان 841 شخص من النساء والرجال والأطفال، وقتلوا بدم بارد ذبحا أو رميا بالرصاص 1280 شخص، وجرحوا 890 شخصا آخرا، مات ما يقرب من نصفهم فيما بعد، وتسببوا في تهجير أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان من قضاء سنجار لوحده ناهيك عن سهل نينوى، تركوا كل ما يمتلكوه من تحويشة العمر، وخرجوا بملابسهم حفاظا على شرفهم وأطفالهم من وحوش بشرية فقدت كل أنماط السلوك الآدمي وأخلاقيات الإنسان السوي.

واليوم وبعد عام على سقوط القيم الخلاقة للإنسان لدى داعش ومن والاها فكرا وثقافة وعقيدة وأخلاقا وسلوكا، والذي أدى إلى سقوط مدينة سنجار وغيرها من مدن الحضارة والأخلاق الرفيعة، سقطت تلك الأنسجة الاجتماعية التي كانت تربط معظم المكونات الدينية والقومية، وأنتجت جوا نفسيا معقدا وبيئة تملؤها روح الانتقام بسبب الجروح الغائرة التي أنتجتها تلك الجرائم البشعة لمنظمة فاشية خطفت آلاف النساء والأطفال، واغتصبت تحت ضلال عقيدة مسخ المئات من النساء والفتيات في وسط اجتماعي قبلي محافظ ومتشدد في علاقاته الاجتماعية يعتبر الشرف أهم أعمدته المقدسة، ورغم يقيننا بأن داعش وفكرها لا يمكن أن يعيش طويلا وسيسقط حتما، إلا أن الأخطر هو ما بعد مرحلة تطهير البلدات والقرى من عناصره، حيث الإرث الهائل من الحقد والانتقام خاصة وان جروحا بليغا سببتها عمليات المساس بالشرف الشخصي للفرد والمجتمع، مما يتطلب حلولا جذرية في فك التداخل بين المكونات التي تعرضت للتعريب والتبعيث والاسلمة والجينوسايد.