في العراق اليوم مظاهرات كبيرة، بدأت في البصرة وامتدت إلى بغداد، وآخذة بالأتساع في مدن الجنوب، وربما تمتد إلى مناطق أخرى!

ترى أهي بداية الثورة كما نتمنى ونبشر؟ أم هي مجرد فورة الدماء في الرأس بفعل الحر الشديد، وانقطاع الكهرباء؟ طبعا العاطفة شيء، وحسابات العقل شيء آخر!

حتى الآن شعارات المتظاهرين هي في إطار المطالب: توفير الكهرباء وإقالة وزير الكهرباء، شعارات تدعو لتصفية الفساد وإعادة الأموال الهائلة المسروقة سواء من ميزانية الكهرباء، أو الحقول الأخرى، وثمة من يتحدث عن تطورها إلى ما هو أعلى وأخطر؛ إذا لم يلبوا مطالبهم!

حتى الآن الأمور تسير على ما يرام، وهي في معظمها قيادة وحضورا من رجال ونساء محسوبين شيعة. بينما هم كما هو واضح من تصريحاتهم يؤكدون انتماءهم للشعب لا للطائفة، وثمة مراجعة أو وقفة أو ندم إزاء النهج الطائفي المدمر!

من الأفضل أن لا يتعدى الحضور السني فيها الحجم الرمزي، لكي لا تحسب على أنها ( مدفوعة الثمن) أو لتركيا والسعودية يد فيها!

المظاهرات مفتوحة ونابضة وحيوية،نرى فيها شعارات ترتجل وتتفجر عفويا، لكنها حتى الآن لم تصل حد المطالبة بإسقاط العملية السياسية الفاشلة الجارية، وتغيير أسس النظام القائم على التحالف الطائفي العنصري، والحكم الديني الرجعي المتخلف.

على العكس بعضها أراد أن ينطلق من ظلال المرجعية في النجف، كما إن المرجعية ورجال دين من خارجها، حرصوا أن يكون لهم موطئ قدم كبيرة واضحة فيها! وهذا تحسب ديني عريق يضمن وجود ومصالح رجال الدين في الحلقات المتناسلة! بل إن رئيس الوزراء رحب بالمظاهرات، وضمن حصته في البيدر الآتي، إذا أتى!

وإذا كان الحال بهذه الحدود فهي فورة غضب لا أكثر، أي هي نزوع إصلاحي لا تغيير جذري يعقبه! بل إن المطالب نفسها ستصطدم بحقائق الواقع وسيجري تأجيلها أو تسويفها : فالكهرباء حسب أكثر التوقعات تفاؤلا لن تتوفر قبل عقد من السنين، وستعوض بإقالة الوزير غير مأسوف عليه!

ومئات المليارات من الدولارات سرقت من قبل حيتان كبيرة؛ لا يمكن لشباك المتظاهرين أن تصطادها، والأموال المسروقة صارت جزءا من الترسانة المالية الدولية، ولن تخرج منها إلا على رؤوس الرماح الصاروخية!

أما الثورة التي يحتاجها العراق فإن ظرفها الإنساني متوفر ومتفجر، فالناس في ضيق شديد : انعدام الأمن،تسلل الدواعش، استشراء الفساد، دولة فاشلة مفلسة تقريبا،افتقاد كل الخدمات لا الكهرباء فقط، تزايد عدد الملايين تحت خط الفقر،غياب الوجه الثقافي والحضاري للعراق تحت ركام وسخام العمائم، هيمنة إيرانية سافرة، والناس في بلدان أخرى ثاروا لعشر معشار ما في العراق!

لكن الظروف حول العراقيين معقدة ومتداخلة: فالعراق منقسم على نفسه، ومقسوم على غيره، مرات ومرات، وإيران لن تقبل بحدوث تغيير ثوري فيه. ليس فقط إنها سوف تفقد رجالها ومليشياتهم ونفوذهم، بل هي تخشى من نموذج ثوري يشجع على قيام مثيله ضد نظامها!

وأمريكا لن تقبل سقوط نظام صنعته بنفسها كطبخة مسمومة، وحجتها أنها متحالفة معه في محاربة داعش! متناسية أن داعش إحدى ولاداته المشوهة!

والشرط الذاتي (على ذمة علماء الثورات )غير متوفر، فلا قيادة ثورية منظمة متماسكة لهذا الحراك الجماهيري الواسع، ولا مشروع ثوريا واضحا مطروحا على الناس ليؤمنوا به، ويهبوا لتحقيقه!

سيلجأ الرجال الذين تحولوا من صعاليك إلى شخصيات دولة، ووجهاء كبار، ومليارديرات؛ إلى احتواء هذا الحراك النبيل الضروري والمشروع، مرة بمباركته فيكونوا جزءا منه، والثاني باغتيال أو اعتقال الكثير من طلائعه، ومع ذلك فإن الكثير من الاحتمالات الكبيرة والهامة قائمة أيضا، وثمة حرائق كبيرة اندلعت من مستصغر الشرر!

&

[email protected]