لا أدرى هل هي من باب المصادفة أن يتحرك داعش في المناطق والدول ذاتها التي وردت ضمن مايعرف بخرائط التقسيم التي تداولتها معاهد الابحاث والأجهزة الاستخباراتية الغربية والمستشرقون وغيرهم. هذه الخرائط التي كثر الحديث عنها والتطرق إلى تفاصيلها في مقالات الرأي بالصحف والمواقع العربية في الآونة الأخيرة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عقود عدة مضت، حيث طرحت منذ منتصف القرن العشرين تصورات عدة لتقسيم الشرق الأوسط، منها ماطرحه كتاب اسرائيليون في الثمانينيات ثم ما عرف بخريطة برنارد لويس المستشرق اليهودي خلال عقد التسعينيات، حتى نشرت دراسة" حدود الدم: كيف يبدو الشرق الأوسط أفضل" في دورية "أرميد فورسيز جورنال" AFJ عام 2006، وأعدها الجنرال السابق بالجيش الامريكي رالف بيترز وخلص فيها إلى ضرورة إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وتقسيم دوله إلى دول أو دويلات جديدة تقوم على ما وصفه بحدود صحيحة أسماها "حدود الدم". معتبرا أن الحدود الجغرافية القائمة سبب مباشر في صناعة الكراهية بين الشعوب وبالتالي لم تعد "حدوداً مقدسة".
فكرة التقسيم وما يرتبط بها من خطط ومؤامرات عادت بقوة إلى ساحة النقاشات مع نشر تنظيم "داعش" خارطته المزعومة للخلافة التي يسعى إليها، وسرعان ما انزوت وتراجع الاهتمام بفعل تلاحق الأحداث والتطورات في المنطقة، ولكن يبدو أن اندلاع الحرائق في نقاط جغرافية معينة قد أثار لدى كثير من المراقبين والمحللين فكرة خطط التقسيم مجددا، حيث لاحظ هؤلاء أن داعش يتحرك على "حدود الدم" التي تعد قاسماً مشتركاً واضحا في كثير من معالمها وملاحها بين خارطة داعش وخارطة برنارد لويس والخارطة التي طرحها رالف بيترز.
أخطر مايثير الشكوك أن داعش قد استهل دولته المزعومة بالإعلان عن سقوط حدود سايكس ـ بيكو، المرسومة منذ نحو قرن مضى، ولكنه لم يضع حدود لدول بل لولايات وهي بالمناسبة حدود ليست نهائية ولا قاطعة وفق الفكر الأيديولوجي لداعش، الذي ينطلق من ان الخليفة المزعوم لا يجب أن يتوقف عن التمدد جغرافيا، وهذا الأمر يجد صداه في شعار دولة البغدادي المزعومة الذي ينص على أنها دولة "باقية وتتمدد". وبالتالي تبرز نقطة التنافر الأساسية بين خطط التقسيم الغرب ـ اسرائيلية من ناحية وبين خارطة داعش من ناحية ثانية، حيث ترسم الأولى حدود جغرافية جديدة للشرق الأوسط بينما تقوم الثانية على دولة زئبقية تتوسع وتتمدد جغرافيا بحيث لا يمكن رسم حدود لدول بعينها بل إن الخارطة الوحيدة المعترف بها من جانبها هي خارطة هذه الدولة المزعومة التي تضم اجزاء عدة من دول عربية قائمة!.
في ضوء ماسبق تطرح تساؤلات عدة مشروعة: هل يمكن اعتبار تنظيم داعش جزء من مخطط غربي للتقسيم بمعنى أنه أداة لتنفيذ مخططات التقسيم الغربية بحيث يلعب دور معول الهدم لما هو قائم على أن تتولى هذه الدول حصد ثمار ما يحدثه التنظيم من تخريب وفوضى في الاقليم؟
هل يخدم تنظيم داعش خطط التقسيم الغربية؟ وهل هناك تنسيق بين داعش والغرب وما يشبه الاتفاق الضمني على أي مخططات من هذا النوع؟ وماهي حدود التفاهم في هذا الشأن؟.
ما يغذي الشكوك في علاقة تنظيم داعش بالغرب هو آليات التمدد الجغرافي للتنظيم والظروف التي يحدث فيها هذا التمدد، حيث يبدو سقوط المدن والمحافظات العراقية بين أيدي التنظيم مثيراً للريبة والشك بحد ذاته، فالجيش العراقي حين يهرب تاركاً خلفه أسلحته وعرباته المدرعة الحديثة التي يفترض أن يهرب فيها بحكم قدرتها على حماية الأفراد من الاستهداف الداعشي وغير ذلك، وحين يفر آلاف الجنود "المدربين" والذين أنفق عليهم مئات مليارات الدولارات في تدريبهم وتسليحهم بأحدث الأسلحة في مواجهة عناصر ميلشيات داعش لابد وأن تثور الشكوك حول أبعاد ما يحدث وظروفه!!.
من ينظر إلى ما يدور على الساحة العربية، يجد أن ليبيا قد انقسمت ظاهريا إلى دويلات يسيطر علي كل منها فصيل مختلف، والعراق كذلك ماضياً على الدرب ذاته، وسوريا ألمح رئيسها بشار الأسد إلى قبولها ضمنا بالأمر الواقع وأقر بإنهاك جيشه في الصراع وانسحابه من بعض المناطق حفاظاً على مناطق أهم، فيما يتنامى الحديث عن دولة كردية وهناك توترات في دول عربية أخرى، وفي كل بقعة من بقاع التفتيت هذه نلحظ ان داعش حاضر بقوة، فالتنظيم حاضر على الأرض بقوة في العراق ويسيطر على أكثر من ربع الأراضي السورية، وكذلك الأمر في ليبيا وسيناء المصرية وغيرها من المناطق.
أنا شخصيا لا استبعد مطلقاً الربط بين نشأة تنظيم داعش ومخططات تفكيك الدول العربية وتقسيمها، فلكل مخطط ادوات ومداخل كي يبدو الأمر مقنعاً للعالم، وكي يبدو التقسيم بمنزلة طرح بديل وبوابة لانتشال ضحايا الصراعات العسكرية الدائرة من مستنقع الدماء الذي يحيط بهم، ومن هنا لا استبعد أي تحليل يقول بأن داعش صنيعة إيرانية أو امريكية أو حتى إسرائيلية فالتنظيم يخدم اهداف هذه القوى الثلاث مجتمعة ولا يحقق أي من أهداف العالم العربي والإسلامي، ويقوم بدور معول الهدم بجدارة وامتياز لا يرتقي إليهما الشك.
الإشكالية أن العرب غارقون في البحث عن مدى جدية خطط التقسيم ومن يقف وراء تنظيم داعش، والفترة الزمنية التي يحتاجها التحالف الدولي للقضاء على تنظيم داعش، وهل هي عشرون عاما كما يقدر الجانب الأمريكي ام أقل من ذلك بكثير من يعتقد محللون ومتخصصون عرب وغيرهم، وسواء كان التقسيم مجرد ضرب من الخيال أم خطة حقيقية يجري تنفيذها على الأرض، فإن الحقيقة الماثلة أمامنا جميعا أن هناك فوضى تسري في الجسد العربي وأن وقف هذه الفوضى والتصدي لها، واجب يجب أن يتصدر أجندة العمل العربي خلال المرحلة الراهنة.
&