&إن مقالة الزميل حسن العطار فيها الكثير الكثير من الوجع والشجون، ومن منا لم يفكر بالهجرة يوما ما؟ أنا عن نفسي حاولت كل جهدي ولكن للأسف لم تقبلن أي دولة بسبب تخصصي وهو اللغة الإنجليزية، وهم لا يريدون إلا التخصصات الفنية التي تساعد على بناء حضارتهم ونموهم الاقتصادي. فبقيت هنا أتجرع الألم كلما شاهدت نشرة أخبار أو كلما حاولت إتمام مصلحة لي في الدوائر الحكومية أو كلما حاولت الاحتفاظ بصديقة، هكذا حياتنا مليئة بالأشواك أينما ذهبنا.&

والسؤال الكبير الذي يثقب الأعين المفتوحة على وسعها هو لماذا؟ ما الذي فعله العرب ليذوقوا أصناف العذاب المادي والنفسي؟ بالطبع لا مجال للخوض بالأسباب لأنها كثيرة وحساسة لأن بعضها بتعلق بالموروث الاجتماعي وبعضها يتعلق بالأديان وبعضها يتعلق بالأنظمة السياسية، ولا بد للقارئ أن يجلب كتاب المفكر العربي هشام شرابي الذي حلل الوضع الاجتماعي في المجتمعات العربية بدقة تجعلك تقول عند كل سطر "مزبوط". كما لا بد من تجميع الأمثال العربية التي تكرس النذالة والصغار والخضوع حتى عندما تضيع الحقوق وتهدر الكرامة.&

أود أن أسرد تجربتي في الغربة في بلاد العرب للقارئ الكريم لكي يقارن ما نحن فيه بما هم فيه. إذ كنت أعيش في هذا البلد لوحدي (دون ذكر اسمه كي لا أتهم بلدا معينا مع أن الوضع ينطبق على كل البلدان العربية)، وقد حاولت كثيرا أن أكون صداقات مع بنات هذا البلد لأنهن عربيات وذوات ثقافة مشابهة، فوجدت أنه ليس لديهن قبول للعربي الوافد لأنهن ثريات جدا وهذه العربية دونهن من حيث المستوى الاجتماعي والمالي، ففكرت بالبحث عن أخريات، فلم أنجح، لأن هؤلاء السيدات تقتصر صداقتهن على بنات بلدهن، وهكذا بقيت لوحدي، ثم قرأت ذات يوم إعلانا عن جمعية اسمها "التاريخ الطبيعي" Natural History لجماعة استكتلنديين وذهبت إلى مقرها وسجلت اسمي فيها، وحصلت على برنامج الجمعية، وكان منوعا وممتدا على أيام الأسبوع بالنظر إلى أن ظروف كل شخص تختلف عن الآخر ولا بد من مشاركة الجميع في الموعد الذي يناسبهم.&

شاركت في جميع نشاطات الاسكتلنديين وكانت مخططة جيدا وتم تنفيذها بأعلى مستويات المهنية والاحتراف، فهناك رحلات استكشافية وكان المشاركون أزواجا وفرادى وجميعهم كبار في السن، وكان من نشاطاتهم الرقص الاسكتلندي الشعبي حفاظا على ذلك التراث من النسيان، وفي الحقيقة كان رقصا حضاريا جدا ومعقدا بسبب الحركات المنوعة والدقيقة بشكل يختلف تماما عن رقصنا الشعبي الذي يتكون حركتين أو ثلاثة. وكان هناك اجتماع قبل البدء مع رئيس الجمعية الذي يخبرهم بمن وصل حديثا من بريطانيا وأين عنوانه أو عنوانها لكي يتصلوا بهم ويحضرونهم ويعلمونهم أن الجمعية في خدمتهم، ولا يتركونهم وحدهم أبدا، حتى من يتعرض لمشكلة فإنهم يهبون لنجدته بمعية السفارة البريطانية.&

كنت مسرورة بالمشاركة، لكنني أتذكر في كل مرة أن بلفور رئيس الوزراء البريطاني الذي منح فلسطين لليهود كان اسكتلنديا، وعلى العموم فالاسكتلنديون يختلفون عن بقية البريطانيين ويعتبرون أنفسهم أفضل منهم، لذا فهناك قسم كبير منهم يدعو إلى الانفصال. وصحيح أنني لم أنسجم جيدا معهم، ولكن على الأقل فقد ساعدت نفسي للخروج من شقتي التي كانت كالقبر وحتى لو مت فيها فلن يكتشف أحد إلا إذا تعفنت الجثة وانتشرت رائحتها.&

وقعت في مصيدة المقارنة طوال مدة عضويتي في الجمعية، وقد خرجت بالاختلافات التالية:

هم يتفقدون بعضهم ويتواصلون ويتعاونون في أفضل شكل من التضامن والتكافل ونحن لا نأبه بمن أتى أو راح من إخوتنا.&

هم يقومون بنشاطات ذات معنى حضاري رفيع وقد تعلمت الكثير من الرحلات الاستكشافية، أما نحن فلا نقوم بمثل هذه النشاطات.&

هم يهبون لنجدة بعضهم البعض في حالة الوقوع في المشاكل ونحن لا نفعل ذلك.&

هم يكونون صداقات بسهولة ونحن نموت من الوحدة.&

هم يتقاضون رواتبا خيالية لقاء القيام بنفس أعمالنا نظرا لأن إخوتنا العرب يقدسون الخواجات.&

هم يتمتعون بالحياة ويذوقون طعمها الحقيقي ونحن لا نذوق إلا المرارة والإحساس بالدونية.&

هم يعطون معنى للوقت من خلال الاستكشاف والنشاطات الترفيهية التي ليست بالضرورة كما يتصور بعض إخواننا العرب، بل هي حضارية ومحترمة ومحافظة.&

هم لا يشعرون بالغربة مع أنهم يعيشون في بلاد لا تشبههم بشيء ونحن تقتلنا الغربة ونحن مع إخوتنا العرب.&

على عكس ما نشيع عنهم، فإنهم ليسوا مفككين، بل لديهم تماسك وتكافل مثير للإعجاب.&

ولو يتسع المجال لقدمت وصفا لطريقة معاملتهم لبعض البعض، والصورة المقابلة لطريقة معاملة بعضنا البعض. لقد أحسن الزميل العطار بإثارة هذا الموضوع لأنه الأصل لكل مآسينا السابقة واللاحقة.&

[email protected]

&