ليس بخافِ على أحد أن اليسار العراقي لعب أدواراً مختلفة ومتعددة خلال تأريخ العراق الحديث، بدئاً مِن تأسيس الدولة العراقية الحديثة حَتى الأمس القريب، وقد اختلفت طبيعة هذه الأدوار بإختلاف الظروف والأحوال، إلا إن المُثير والمُمَيّز فيها هو أنها بمُجملها كانت وجائت بأوقات وأماكن غير مناسبة، مما جعل تأثيرها سلباً على الحياة السياسية في العراق، وعلى مَسيرة اليَسار نفسه مُنذ ولادَته وحَتى الساعة. وسَيبقى اليَسار عاجزاً عَن لعِب دوره الصَحيح في مكانه ووقته الصحيح، ما لم يٌراجع رؤاه ومواقفه من الأحداث والأنظمة السياسية التي مرت وتعاقبت على العراق، مُنذ تأسيس دولته الحديثة وحَتى اليوم.

فأيام العهد الملكي الليبرالي الذي كان أول العُهود السياسية التي شَهدها تأريخ العراق الحديث، والذي كان اليَسار العراقي يُناصبه العداء، نشط اليسار وتميّز بترويج الإشاعات التي تحكي عن تفشّي الفساد والرشوة والمحسوبية في دوائر الدولة الفتية وأجهزتها الحكومية، والتي كانت حينها شُبه مَعدومة وإن وجدت فعلى مستوى أفراد لا مؤسسات كما يحدث في ظل الحكومة الإسلاموية الحالية التي يتفشى فيها الفساد أفراداً ومؤسسات بأعلى المُستويات، رغم ذلك نرى اليَسار يُسانِدها ويُبرّر لها بل ويَتباهى ويتفاخر أحياناً بتعاونه معها وَمد يد العون لها، فأين كانت هذه الروحية ايام النظام الملكي الذي كان اليسار يَراه شَرّ مُطلق!. وفي الوقت الذي أقام البَعض ومِنهم اليَسار الدنيا ولم يقعدها بل ولازال يُعَيّر النظام الملكي بحادثة إعدام العُقداء الأربعة المَسؤولين عن حَركة مايس1941 بعد أن حوكموا لما قاموا به مِن أفعال، نراهم يَغظون الطرف عَمّا قامت به حكومة إنقلاب14 تموز حين أقدمت على أعدام13 ضابطاً بساحة أم الطبول، كانوا من أبرز المشاركين بالتخطيط والإعداد والتنفيذ لإنقلاب14 تموز الذي لايزال اليَسار يتغنى به كثورة مَجيدة، والتي سرعان ما أكلت أبنائها ككل الثورات التي سَبَقتها وتلتها، ولم نسمع أو نقرأ حتى اليوم إدانة وإستنكاراً لهذه العمَلية من قبل اليَسار العراقي بل العكس.وبالأمس تبنى اليَسار النضال السِري السِلبي ضد النظام الملكي، الذي كانت تمثله وتُسَيّر حياته السياسية نخب علمانية ليبرالية ديموقراطية، ولايزال خطابه الجامد المُعلّب يَصِفها بالرجعية والعميلة للإمبريالية، رغم أنها كانت تتعامل مع الإحتلال البريطاني كأمر واقع فرضته ظروف لم يكن لها دخل فيها،وكانت تتفاوض معه بإستقلالية وجرأة للحصول على المكاسب والمصالح الوطنية لشعبها، ونجَحَت الى حد كبير بتحقيق ذلك، وكان مِن إنجازاتها التي سَجّلها لها التأريخ الحصول على إستقلال العراق ودخوله لعصبة الأمم قبل العَديد مِن دول العالم الكبرى اليوم وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي الذي كانوا به يقتدون. أما بعد 2003 فقد رأينا اليسار يتعامل بأريَحية وَوِد مَع شخصيات طائفية رادكالية مُتطرفة شرعَنت الإحتلال الأمريكي مُقابل حصولها على مكاسب شخصية وحزبية. أفليس هو نفس الإحتلال الأنغلو أمريكي الإمبريالي الذي كنتم تعارضون النظام الملكي وتُشَهِّرون به بسببه قبل 80 عاماً؟ هل أصبَحت بريطانيا وأمريكا اليوم دولاً إشتراكية وجزئاً مِن الأمَمِية العالمية ونحن لا نعلم؟ وهل أصبَح التعامُل(إضطراراً) مَع إحتلال مَفروض وواقع عَمالة، في حين بات التعاون(إبتدائاً و طواعيةً) مَع إحتلال خارجي وتوجيه الدعوة له لإحتلال البلاد وطنية؟ وهل كان مِن الخطأ تعاون ساسة العهد الملكي ببراغماتية لمَصلحة البلاد وشعبها في ظل ظروف حرب عالمية مع دولة أجنبية ديمقراطية كبريطانيا كان لها ثقلها وتأثيرها الكبير على المنطقة والعالم، وكانت على قمة هَرَم المُعَسكر الديمقراطي الذي يدافع عَن حقوق الإنسان وكانت تباشير النصر تلوح له بالأفق! في حين كان من الصَواب التعاون والتحالف طواعية وبسُرور مع دول أجنبية كانت شمولية كالإتحاد السوفيتي وألمانيا، ومُحاولة إستنساخ وإستيراد تجاربها السياسية الفاشلة للعراق، رغم إنها لم تجلب لشعوبها سوى الدمار! وهل كان تشرشل دكتاتوري النزعة، في حين كان ستالين وهتلر ديمقراطيوا النزعة؟ أفتونا أثابكم الله!

لا يزال بعض كُتّاب اليسار يتّهمون النظام الملكي بدعم الإقطاعيين وشيوخ العشائر وكبار التجار للوصول إلى البرلمان العراقي، ولو سلّمنا بأن النظام الملكي قد فعل هذا قبل قرن مِن الزمن فله عذره، لأن طبيعة وتركيبة المجتمع العراقي آنذاك فرَضَت واقعاً كان لزاماً التعامل معه ومسايرته وصولاً لتغييره، فهو لم يكن بإستطاعته حينها تشكيل برلمان من مثقفين وأكاديميين (تكنوقراط) بيوم وليلة في بلد كان80 % من أبنائه لايعرفون القراءة والكتابة. لكن الغريب هو إن هؤلاء الكتاب سكتوا عن ما هو أسوء من ذلك بكثير بعد2003!. من جهة أخرى يقول بَعض هؤلاء بأن فيصل الأول وأبنائه كانوا يدركون فضل البريطانيين عليهم بتنصيبهم ملوكاً على العراق،وهو كلام يجافي الحقيقة مَع وجود عشرات الأدلة التي تثبت أن العائلة المالكة جائت للعراق بنائاً على طلب العراقيين أنفسهم، بالإضافة للعديد من المواقف الوطنية المُشرفة التي إتّخذتها هذه العائلة، والتي تنفي عنها صفة التبَعِية للبريطانيين، بعَكس مَن جاؤوا بعدها بقرن مِن الزمن، والذين نعلم جميعاً أن فضل الأمريكان عليهم أكبر بكثير، عندما قاموا بتنصيبهم في يوم وليلة قادة وزعماء للعراق دون وَجه حق، رغم أن أغلبهم كانوا ولايزالون نكرات بالنسبة للشعب العراقي،لذا نراهم لايفتحون أفواههم أمام الأمريكان لأنهم أولياء نعمتهم وبيَدهم إزالتهم عن السلطة بأية لحظة. كما يُردّد البعض أيضاً أن النظام الملكي قد ساهم بتكريس الوجود البريطاني في العراق عِبر المُعاهدات وإمتيازات النفط الخام للشركات الأجنبية، وهو كلام فيه كثير مِن التجَني ولا يأخُذ بعَين الإعتبار ضُعف إمكانات الدولة العراقية الفتية آنذاك، وحاجتها لتحالفات دولية تحميها مِن الوحوش الكاسرة والذئاب المُفترسة المُحيطة بها، والى شركات أجنبية تساعدها لتطوير بناها التحتية، في حين أن عراق ما قبل2003 الذي إستلمه حكام العراق الحاليين الذين يحتفظ اليسار بعلاقات متميزة معهم، كان يمتلك جيشاً قوياً قاموا بحَلِّه وبُنى تحتية قاموا بتدميرها وكفائات علمية وثقافية متميّزة قاموا بتصفيتها وتهجيرها وبات تابعاً لهذه الدولة وتلك.

لقد ركز أكثر المثقفين العراقيين الذين يُحسَب أغلبهم على اليسار العراقي، في الفترة التي سبقت إنقلاب14 تموز1958، على النقد المُستمر المتواصل بسبب وبدونه للنظام الملكي الدستوري المؤسساتي، دون إعطاء رؤى واقعية بديلة فيما يتعلق بقضايا المجتمع والحياة السياسية، في حين إلتزموا بمَواقف غير نقدية بل ومؤيدة في أغلب الأحيان،تجاه النظام العسكري الشمولي الجديد الذي سَطى على السلطة بذلك التأريخ. ما يوحي أن الشعارات التي كانوا يرفعونها لم تكن سوى حبر على ورق وغير قابلة للتطبيق، بدليل فشلهم في تشجيع أصدقائهم العسكر للتحول نحو سياسة ديمقراطية ودفعهم لإقامة نظام ديموقراطي، بل ووقفوا موقف المتفرج مِن قاسم وهو ينفرد بالسلطة دون منازع ويتحول للزعيم الأوحد الذي تُرى صورته في القَمَر! فهل هذا ما كانت قوى اليسار تطمح للوصول إليه وتحقيقه من تحالفها مع العسكر عام1958؟ وهل ما وصل إليه حال العراق اليوم هو ما كانت تطمح له مِن تحالفها مع قوى الإسلام السياسي قبل 2003؟ طبعاً لا.بالتالي لو لم يقف اليسار العراقي بوجه النظام الملكي الذي كان موقفه واضحاً حازماً مع المؤسسة الدينية ومَنَع رجال الدين مِن التدخل بالسياسة، ولو تعامل معه حينها بإيجابية وفاعلية لما إنتهى به الحال الى ما هو عليه اليوم مما يشبه الإفلاس الجماهيري في المجتمع، والى تلك النتائج المتواضعة التي حَصَل عليها بإنتخابات 2005 و2006 و2010 والتي لم تتجاوز بضعة آلاف مِن أصوات الجماهير التي يَدّعي اليسار تمثيلها والدفاع عن حقوقها، مقابل ملايين الأصوات التي حصدتها قوى الإسلام السياسي الظلامية. لذا كانت القوى الديمقراطية، ومنها اليسار، الخاسر الأكبر مِن عمَلية تدمير المَشروع النهضوي التنويري الحداثي للدولة العراقية الحديثة في صباح14 تموز1958 الأسود، والتي ساهم فيها اليسار من حيث يدري ولا يدري، أما الرابح الأكبر فكان قوى الإسلام السياسي التي تتربع اليوم على رأس السلطة في العراق، والتي يأتي تدمير مشروع الدولة العراقية اليوم لمقدمة أولوياتها كما كان كذلك قبل 90 عاماً، وما يحدث اليوم خير دليل على ذلك.

&شارك اليسار العراقي جنباً الى جنب مع القوميين والإسلاميين بصناعة أعنف وأشرس إعلام مضلل في تأريخ العراق والعالم ضد النظام الملكي، مِن خلال تبنيه لسياسة الدعاية والتحريض وتضخيم هفوات وأخطاء ذلك النظام بشكل صارخ ومبالغ فيه، نعم كان هنالك فقر بسبب قلة موارد أمكانات الدولة الفتية التي كانت تنهض تدريجياً ولكن الناس لم يموتوا جوعاً كما حدث في العهود اللاحقة وكما يحدث اليوم رغم الموارد الهائلة والخرافية التي أمتلكتها، ونعم كان هنالك سجون وإعتقالات لكن أغلبها كانت وفق الأطر القانونية ولم تصل لواحد بالمئة مِن سجون وإعتقالات حكومات مابعد العهد الملكي الكيفية والكيدية. لقد كان اليسار مَصدراً رئيساً لإطلاق ونشر الشائعات المغرضة ضد النظام الملكي، والتي ساهمت بشكل كبير بتأليب العوام والرعاع على ذلك النظام (الصَح)، فكان يُشاع حينها بأن الطرق التي تُعبّدها الحكومة هي للمستعمرين وليس للشعب، وأن السُدود العِملاقة التي أقامتها الحكومة هي لحِماية مزارع وبَساتين الإقطاعيين. بالمقابل نجد أن هذه اليسار قد عَمل على التبشير لأغلب العهود(الخطأ) التي تلت العهد الملكي والترويج لها ولحكوماتها، ولايزال يلعب نفس الدور في العهد الحالي (الخطأ) الذي بُنيَ بأسس خطأ ولأنه إستمرار ونتيجة لعهود خطأ. وفي الوقت الذي كان فيه اليسار مُساهِماً أساسياً بهَدم المشروع (الصَح) الوحيد في تأريخ العراق الذي تبناه النظام الملكي وكان نهضوياً تقدمياً حداثياً بكل المقاييس، نراه قد ساهم بفاعلية وبجد ولا يزال في بناء كل المشاريع (الخطأ) التي تبنتها الأنظمة التي أعقبت النظام الملكي، والتي كانت إما قومية أو إسلامية لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بفكراليسار وتوجهاته! وفي الوقت الذي لم يُقدّم فيه اليسار رِجلاً ولم يَمُد يداً للنظام الملكي وكان حاسِماً لأمره حازماً في موقفه مِن ذلك النظام (الصَح)، نراه قد قدّم رجليه ومدّ يديه لكل الأنظمة (الخطأ) التي أعقبت الملكية قبل أن تبدُر مِنها أي بادرة حُسن نيّة تشجّعه على هذا المَوقف، بل ظل ماداً يده للكثير منها رغم ما بَدَر مِنها مِمّا يثبت عكس ذلك، وموقفه مِن نظام قاسم الذي لايزال بعض كتاب اليسار يألهونه ويصفونه بالزعيم الخالد،أو مِن نظام صدام الذي وصفه بعضهم في يوم من الأيام بكاسترو العراق، أو مِن النظام الحالي، دليل على ذلك. بالتالي لعبَ اليسار دوراً سلبياً في الزمان (الصَح) الوحيد بتأريخ العراق الحديث، في الوقت الذي لعب ولايزال دوراً إيجابياً بجميع الأزمنة (الخطأ) التي تلته، ولو كان قد حَسَبها(صَح) بعيداً عن الآديولوجيات الثورية وشعاراتها المتشنجة، ولعب دورأ إيجابياً في الزمان(الصَح)الوحيد، لما وصلنا الى الزمان(الخطأ) الذي نعيشه اليوم، ولوَفّر على على نفسه وبلده الكثير من المآسي والآلام. المشكلة هي أن اليسار وبدلاً مِن إعترافه بهذا(الخطأ التأريخي) مايزال مصراً على الإفتخار والتباهي بتبادله الكارثي للأدوار، ولاندري متى يأتي اليوم الذي سيعترف فيه بذلك! عموماً ورغم قتامة المَشهَد الحالي لليسار ورماديته، ألا أن تحركاته بإتجاه دعم الحراك الديمقراطي والتظاهرات الإحتجاجية التي تطالب بالإصلاح والخدمات، تؤشر ربما لتغير في رؤية هذا التيار وتعامله مع الأمور وتشكل ربما بداية له للسير في الطريق (الصَح) ولو لمرة واحدة.

يجب أن يُفهَم بأني لا أكتب عن اليَسار العراقي بُغضاً به أو كرهاً له كوني مَلكي الهَوى مَثلاً، فأنا أؤمن بالفكر العلماني الليبرالي وبالتالي أحترم آراء الجَميع، كما أؤمن بأن لكن زمَن ظروفه لذا لا أفكر بطريقة ثأرية كما يَفعل البَعض، بل إنني أرى إن اليَسار هو الأقرب لتوجهاتي العلمانية الليبرالية من بَين جَميع التيارات السياسية المَوجودة على الساحة السياسية، ونقاط تلاقينا هي أكثر بكثير مِن نقاط إختلافنا. إن إنتقادَنا لليَسار بين الحين والآخر وتشخيصَنا لأخطائه الماضية والحاضرة يَنطلق مِن مَحبّتنا له وإعتزازنا به، بل وإيماننا بإمكانيته للعب دور إيجابي كبيروأساسي بأتجاه تصحيح مُجريات الأحداث التي يَمُر بها العراق اليوم. نحن نكتب لليَسار وعَنه علّنا نوقظ عقولاً طال سُباتها، ونُجدّد أفكاراً طال تعليبها وإنتهت صَلاحيتها كانت ولاتزال مَحسوبة على اليَسار وتتحكم به أحياناً.&

&

[email protected]