لم تكد طهران تنتهي من ماراثوان الحوار مع دول مجموعة "5+1"، والذي توج بتوقيع الاتفاق النهائي حول البرنامج النووي الايراني، حتى اتجهت إلى التلويح بنيتها في إجراء حوار مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتردد إعلاميا أن هذا الحوار سيعقد خلال الشهر المقبل بهدف تجاوز الخلافات حول الوضع في كل من سوريا واليمن بحسب ماورد على لسان مساعد وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان، الذي اعتبر أن وضع سياسة مشتركة بشأن هذين الملفين "أمر ضروري من أجل مكافحة تنظيم داعش الارهابي".
الواضح ان طهران تعتقد أن الاتفاق النووي يوفر أساساً لأطر جديدة من التعاون مع الجوار الاقليمي، وهذا صحيح من الناحية الظاهرية ولكن تجارب الماضي وموروث العلاقات الخليجية الإيرانية يشير إلى عكس ذلك تماماً، لأن للتعاون شروط ومتطلبات ربما تغيب عن فضاء العلاقات الراهن عبر ضفتي الخليج العربي بسبب سياسات طهران وطموحاتها التوسعية مذهبية الطابع.
&أكثر مايشككني في نوايا إيران إزاء الحوار مع جيرانها الخليجيين أن طهران لم تراعي حق الجوار في أمور عدة، أولها أن إيران لا تزال تصر على أسلوبها القديم في التعامل مع دول مجلس التعاون، فهي لا تزال تمضي على درب عدم الاعتراف الضمني والرسمي بمنظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتتعامل مع أعضائه بشكل فردي، حيث تفضل إيران الانفراد بعلاقات ثنائية مع كل دولة على حدة، والأمر في هذا الإطار ليس عابراً ولا طارئاً بل تمارسه طهران منذ سنوات وعقود مضت، ويعكس رغبة إيرانية في صياغة ترتيبات أمنية خليجية جديدة تتجاوز الدور المؤسسي لمجلس التعاون وتنسف هذا الدور من جذوره لمصلحة لمصلحة دمج إيران في إطار إقليمي مؤسسي جديد، وفي ذلك يلاحظ زيارة وزير الخارجية الايراني جواد ظريف لكل من الكويت وقطر فقط ضمن جولته الخارجية الأخيرة.
الأمر الثاني الذي يشكك في نوايا إيران تجاه تحقيق انفراجة حقيقية في الأزمات الاقليمية أن طهران لا تزال تتمسك بخططها الاستعلائية التوسعية، التي غرست بذور أزمات المنطقة، حيث يصر المسؤولون الإيرانيون على تكرار تمسك بلادهم بدعم من تصفهم طهران بالاصدقاء والمظلومين والمستضعفين في العراق وسوريا واليمن والبحرين، ما يعني استمرار السياسة القديمة التي أشعلت لهيب الفتن الاقليمية، فعلي أي أساس إذاً يمكن أن تتحاور إيران مع دول الجوار؟! وماذا تريد من تدشين حوار على قاعدة التعنت والتصلب والتشدد الأيديولوجي والمذهبي والسياسي؟! وكيف يمكن إطلاق حوار عبر ضفتي الخليج العربي في ظل غياب أجواء حسن النية والإصرار على التدخل في شؤون دول الجوار؟! وكيف نصدق أن طهران تسعى للاستقرار في حين أن وزير خارجيتها جواد ظريف يقرن الدعوات للحوار بالتأكيد على مواصلة بلاده نهج تسليح الحلفاء في المنطقة، وقال في تصريحات منشورة له مؤخراً نصاً أنه "لولا مساعدات الجمهورية الإسلامية لسقط الكثير من العواصم بيد تنظيم داعش".
لاشك أن موقف دول مجلس التعاون، وخصوصا دولة الامارات العربية المتحدة، في محاربة التطرف والارهاب وتنظيماته وجماعاته واضح، لاسيما داعش، ولا يمكن المزايدة عليه من أي طرف إقليمي أو دولي، ولكن لا يمكن بالمقابل الصمت على الخروقات الايرانية التي تنتهك سيادة دول شقيقة وتهديد تماسكها ووحدتها واستقرار شعوبها بدعوى محاربة "داعش" أو غيره من تنظيمات الارهاب والتطرف. فالتطرف والمذهبية والطائفية وجهان لعملة واحدة ولا يمكن غض الطرف عن نشر الطائفية والمذهبية بحجة التصدي للارهاب والتطرف، فهما وجهان لعملة واحدة وخطر واحد يهدد الأمن والاستقرار الاقليمي والعالمي بأكمله.
لا أحد يستطيع التقين مما تدبره إيران، ولكن المؤكد أننا قادرون على قراءة ظاهر الأمور، التي تفضح نوايا طهران، فليس من المنطقي أن نصدق مزاعم تتحدث عن رغبة في تحقيق الأمن والاستقرار في حين أن تدخلات إيران في مملكة البحرية الشقيقة لا تزال مستمرة وبإصرار فاضح، فوزارة الداخلية البحرينية اعتقلت مؤخراً خمسة أشخاص على صلة بتفجير وقع في يوليو الماضي، وأسفر عن مقتل رجلي شرطة وأن المعتقلين اتهموا بوجود صلات تربطهم بالحرس الثوري الإيراني. فضلا عن أن تدخلات إيران في الشأن الداخلي البحريني واستقواء جماعات شيعية بحرينية بطهران يغذي التوترات الداخلية التي تشهدها مملكة البحرين في السنوات الأخيرة.
الأرجح أن دول مجلس التعاون ستذهب للحوار مع إيران، فليس لدى دولنا ماتخفيه، ولسنا في موقف ضعف استراتيجي في معطيات الوضع الاقليمي الراهن، ولن نسمح لإيران بالصعود إلى مسرح السياسة العالمية والدعوة لمنازلة سياسية ودبلوماسية غير جادة ونترك لها مجال الحركة السياسي لتحلق فيه منفردة. ولكن ـ قبل أي لقاءات أو مشاركات تفاوضية ـ فإن الأمر يتطلب مزيداً من التنسيق ووحدة المواقف بين دول مجلس التعاون، وينبغي أن يتفهم الجميع جيداً أهداف طهران الحقيقية والتصدي لمخططات إيران ورغبتها في توسيع نفوذها وتحقيق مزيد من الانتصارات الدبلوماسية عقب توقيع الاتفاق النووي، لاسيما في ظل موجة الهرولة غير المحسوبة من جانب القوى الكبرى للفوز بنصيب من كعكة الاقتصاد الايراني عقب رفع العقوبات الدولية، وتجاهل هذه القوى استمرار إيران في خوض حروب بالوكالة في دول عربية عدة. كما لا يمكن التسليم بالتضخيم المقصود من أطراف دولية عدة في خطر تنظيم داعش، واتخاذ ذلك ذريعة لتنفيذ مخططات لتقاسم المصالح في العراق وسوريا وغيرهما، فإيران تجاهر على لسان& علي أكبر ولايتي، مستشار الشؤون الدولية للمرشد الإيراني الأعلى على خامنئي، بالقول أن "دعم طهران لحلفائها في لسوريا ولبنان والعراق واليمن سيكون أقوى". في مواقف استفزازية لا يمكن أن تصدر عن دولة مسؤولة تسعى إلى بسط الأمن والاستقرار وتطبيق قواعد القانون الدولي.
لقد استمرت إيران طيلة العقدين الماضيين في جولات متقطعة للحوار مع الغرب حول برنامجها النووي، وهي تجيد هذه اللعبة جيداً وتوظف مهارات حائك السجاد الإيراني في انتزاع التنازلات واحدة تلو الأخرى، واعتقد أن مبادرة الحوار مع دول الجوار لن تحيد عن هذا المسلك الإيراني. وبعض البسطاء يعتقدون أن إيران تسعى إلى تبديد اجواء القلق التي تسود العواصم الخليجية منذ توقيع الاتفاق النووي، ولكن الحقيقة أن طهران باتت تدرك التغيرات الأخيرة في موازين القوى الاقليمية، كما باتت على قناعة بأنها على وشك خسارة مدوية لنفوذها التقليدي في اليمن وسوريا، لذا نلحظ أنها تركز على هذين الملفين تحديدا.
ولاشك أن محاولات غسل السمعة التي تمارسها إيران ضمن خطط تفكيك العزلة الدولية وبلورة دور اقليمي جديد لها، هذه المحاولات لن تنطلي على دول مجلس التعاون، وعلى طهران أن تدرك أنها بصدد واقع إقليمي جديد عليها أن تقرأ مفرداته ومعطياته جيداً بدلاً من التعلق بتلابيب خطاب استعلائي عقيم لن يسفر سوى عن مزيد من الاضطراب الاقليمي.
&