في مقالة نشرتها قبل سنوات جريدة النهار اللبنانية كتب المرحوم الصحفي الكبير غسان ثويني يقول " يفترض بنا ان نقرأ ما يكتب على الحيطان من شعارات فهذه تبين رغبات وطموحات الاجيال الجديدة المقبلة ".

لم تستطع الطغمة الحاكمة في العراق الاتية بعد عام 2003 من اوكار الاحزاب التي تدين بالولاء لجهات اقليمية ان تنظر بعين ثاقبة الى مصالح وتطلعات الشعب العراقي ولم تمتلك بوصلة لرؤية ماذا يحصل وسيحصل لذلك أعتقدت في البداية ان الوعي العراقي سيبقى الى ما لانهاية متعلقا بحبال الاوهام التي اطلقتها مؤيدا مدعي الدين والمذهب متغاضيا عن الواقع وما يدور حوله من قمع وفساد وسرقة أحال المجتمع العراقي الى خراب لامثيل له في التاريخ، ولكن بعد بدء انتفاضة تموز المجيدة في هذه الايام الخالدة باتت هذه الطغمة مهزوزة الاركان مرتبكة وحائرة تحاول وبثعلبية مكشوفة اعلان تأييدها الكاذب لمطاليب الجماهير المشروعة لضمان استمرارها في مواقعها.

ان التظاهرات التي تجري في العراق والشعارات الواقعية التي ترفع تدلل بدون ادنى شك ان الشعب العراقي يمتلك من الوعي والادراك ما يمكنه في النهاية من تحقيق اماله في العيش بحرية وامان، فما يجري حاليا هو احتضار للماضي الاليم الذي استمر اكثر من عشر سنوات ورفض للشعارات الكاذبة التي اطلقتها منذ اليوم الاول للانتخابات عام 2005 وسياتي يوم قريب ليولد المستقبل الذي ينهي الحقبة السوداء التي عاشها الشعب العراقي ليغذ السير الى جانب الشعوب التي تعيش في ظل الاحكام التي تؤمن لها الديمقراطية الحقيقية و الاستقرار والحياة السعيدة.

ان المناداة التي نسمعها اليوم بحل مجلس النواب او انقاص عدده يعتبرمطالب جماهيري له قدر كبير من المشروعية والواقعية، فوجود هذا الجيش العرمرم من النواب العاطلين عن العمل، والكثير منهم لايفهم&ابسط الواجبات النيابية، هو هدر للمال العام وتنفيعة لاحزاب السلطة فقط لاسيما وان النائب العراقي ينال اعلى راتب من بين نواب العالم بالاضافة الى المخصصات الضخمة والسيارات المدرعة وبيوت المنطقة&الخضراء التي يجري الماء العذب في بيوتها ليل نهار وتدور الكهرباء في مصابيح ومبردات بيوتها على مدار الساعة كما ان حراستها اقوى من اية قلعة عسكرية في العالم.

في محاولة للغور في هذا المستنقع المعقد توصلنا الى قناعة راسخة ان مجلس النواب وعلى مدار الدورات الثلاث للمجلس لم يعط مردود سوى بمقدار 10% مما كان يفترض به ان يؤديه،فقد تكدست مشاريع القوانين دون الوصول الى نتائج حاسمة نتيجة نقاشات بيزنطية غير مجدية وعلت صيحات التنافس الفارغ بين الاعضاء وانكب الاخرون في عقد الصفقات المشبوهة لكسب المال الحرام في حين كان البلد بحاجة الى اناس ذوي همة ومعرفة ومقدرة وشجاعة ووطنية لأتخاذ القرارات وتصديق القوانين لتمكين عجلة الدولة من الدوران.

لقد اعتمد الاخذ بهذا العدد الكبير من النواب على فرضية ان كل نائب يمثل 100 الف نسمة. فأثناء اعادة تشكيل الدولة العراقية بعد الاحتلال الامريكي الغاشم، وفي عهد الحاكم المدني الامريكي "السيء الصيت" بول بريمر اعلن قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية في 9/3/2004 كدستور مؤقت للعراق وقد ورد في المادة ( 31 ) فقرة ( أ ) بأن الجمعية الوطنية تتألف من ( 275) عضوا على اساس ان كل عضو يمثل 100 الف نسحة وان عدد نفوس العراقيين في ذلك الوقت هو 27 مليونا و500 الف نسمة وفقا لقواعد بيانات البطاقة التموينية بوزارة التجارة والتي تم الاعتماد عليها حتى في اجراء&الانتخابات الثلاث الاولى عام 2005. علما بأن احصاءات وزارة التخطيط في ذلك الوقت لم يعول عليها لعدم دقتهــا وتحديثها.

وعلى ذات الاسس هذه، والتي لم تكن صحيحة برأينا، وضعت اللجنة المكلفة بكتابة مسودة الدستور المادة ( 49) التي نصت على ان مجلس النواب " يتكون من عدد من الاعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة الف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله يتم انتخابهم بطريقة الاقتراع العام السر ي المباشر ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه ".

اثناء عملنا بمفوضية الانتخابات بين اعوام 2004-2007 استفسرنا من بعض من يطلق عليهم اسم "خبراء " في الامم المتحدة عن الاسس والمبررات التي اعتمدت عليها فكرة تمثيل كل نائب ب 100 الف نسمة سيما وان الامم المتحدة هي التي كانت قد اوحت الى بريمر بهذه الفكرة وتم وضعها في قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، كان جوابهم لنا ضبابيا نوعا ما وهو ان المعايير الدولية تشير الى ذلك وعندما الححنا للحصول على اثبات او وثيقة تفسر هذه المعايير وعدونا بالاتيان بها الا ان الامر لم يكن صحيحا.

في العام 2010 اصبح عدد النواب ( 318) على اساس الزيادة السكانية، وفي عام 2014 زيد عدد النواب ( 20 ) نائبا ليس فقط بسبب زيادة نسبة السكان بل وايضا لارضاء بعض الاحزاب التي اعترضت على حصتها من النواب.. اذن وبعملية بسيطة نجد ان زيادة النواب ما بين انتخابات عام 2005 ولغاية اليوم بلغ ( 63 ) نائبا، وهذه الزيادة تشكل بحد ذاتها "مجلس للنواب" في بعض الدول.

لقد اصبح مجلس النواب العراقي بهذا العدد الكبير (338) قياسا لنسبة سكان العراق جيشا جله عاطل اي انه وبالتسمية العراقية الجديدة فأن ثلثي مجلس النواب اصبحوا من "الفضائيين" يتسلمون الرواتب دون فعل اي شيء سوى تسجيل حضورهم وشم الهواء البارد في قصر المؤتمرات وتسلم الرواتب الضخمة المغرية والمخصصات الكبيرة والتمتع بالسفرات وركوب السيارات المدرعة مع ثلة من المرافقين ( الحماية ) الذين يخافون اشد الخوف على من يحمونهم "لانهم كنوز وطنية "!!!. ان هذه الامتيازات غير المعهودة جعلت الكثيرالكثير ممن لايمتلكون اي ضمير او حسن وطني واخلاقي او اخلاص للوظيفة وللعراق يجهدون للانضمام الى بعض الاحزاب المعروفة بقصد الوصول الى النيابة ليس لخدمة العراق وشعبه بل الحصول على الجاه والثراء على حســـاب الشعب العراقي.

بعد الاطلاع على الكثير من الوثائق المتعلقة بأنتخابات برلمانات الدول بدا لنا ان معظم دول العالم لا تلتزم بما قيل من ان كل نائب يمثل 100 الف نسمة.وهذه بعض الامثلة مأخوذة من دول مختلفة ومتنوعة:

ان عدد اعضاء الكونغرس في الولايات المتحدة هو ( 425) عضوا، وان عدد النفوس هو 320 مليون نسمة بمعنى ان كل عضو كونغرس يمثل حوالي ( 750 ) الف نسمة.

وفي الهند يبلغ عدد اعضاء البرلمان (543)عضوا وان عدد نفوسها هو مليار و 248 مليون نسمة اي ان كل نائب هندي يمثل 2 مليون و 300 الف نسمة.

اما في روسيا فعدد اعضاء البرلمان هو ( 450) فيما ان عدد النفوس يبلغ 145 مليون وهذا يعني ان كل نائب يمثل 325 الف نسمة.

في البرازيل يبلغ تعداد النواب ( 513 ) نائبا فيما ان عدد النفوس هو 202 مليون نسمة بمعنى ان كل نائب برازيلي يمثل حوالي ( 400 ) الف نسمة اي اربع مرات اكثر من النائب العراقي وراتبه ربع النائب العراقي وعمله عشرة اضعاف النائب العراقي؟

في ايران يبلغ عدد اعضاء مجلس الشورى الايراني ( 310) في حين ان نفوس الجمهورية الاسلامية الايرانية هو 81 مليون نسمة بمعنى ان كل عضو يمثل 261 الف نسمة.

يتضح من هذه الامثلة المتفرقة ان معظم دول العالم لم تتخذ المسار الذي سار ت عليه لجنة كتابة مسودة الدستور عام 2004 لذلك بات لزاما ايجاد مخرج لانقاص هذا العدد الكبير من النواب سيما وان الكثير منهم يسكنون المنطقة الخضراء المحصنة ولاعلاقة لهم بناخبيهم من قريب او بعيد ولا يهمهم ان كانوا مائة الف او مليون.

الاقتراح الذي نراه يتناسب مع هذه الفترة حيث يمر العراق بأزمة اقتصادية وخزينة الدولة منهكة انقاص عدد النواب وجعل المجلس يتألف من ( 112) عضوا حيث يمثل كل نائب 300 الف نسمة وهو عدد مقارب لما يمثله النائب في ايران.

كما يفترض كخطوة مرادفة تخفيض رواتب النواب بمقدار 50% والغاء كافة المخصصات والمنح التي لاتظهر في الوثائق وتخصيص سيارة واحدة مع سائق فقط لكل نائب وتحويل كافة المرافقين الى مواقع انتاجية سيما وان افراد الحمايات شباب يمكن ان يخدموا بلدهم في مواقع انتاجية اهم مما يفعلونه حاليا.

ان هذه الاقتراحات لا تهدف الى افقار النواب بل لابعاد هؤلاء الذين جاءوا الى المجلس ليس حبا بالعمل وخدمة الشعب بل لملء جيوبهم من المال السحت الحرام... ان جعل رواتب النواب عادية وبلا مظاهر القوة والفخفخة سيشجع فقط من لهم روح وطنية للعمل لا يأبهون بملء جيوبهم بل همهم خدمة الشعب الذي هو بأمس الحاجة الى المخلصين والوطنيين.