عادت ليبيا بعد نحو أربع سنوات على انتصار ثورتها على نظام القذافي والإطاحة به لتحتل صدارة الاهتمام والعناوين في الإعلام الغربي، رغم كون ما تعانيه من فلتان أمني وضياع لهيبة الدولة، وهشاشة الاقتصاد، وتفتت البنية الاجتماعية لمكونات الشعب الليبي، أمور برزت بعيد "نجاح" الثورة بالقضاء على القذافي وفلوله أو معظم "طحالبه" كما هي التسمية الليبية.
ليبيا البلد النفطي المترامي الأطراف، والذي يتكئ إلى أطول شواطئ على البحر الأبيض المتوسط (نحو 2000 كلم)، وتعداد سكاني ضئيل (نحو 6 ملايين نسمة)، سرعان ما أدار الغرب وخاصة الدول الأوروبية المتوسطية، ظهره لها ولم يكترث لمشاكلها الداخلية مكتفياً بتأمين استمرار تدفق النفط والغاز الليبي إلى الشواطئ الأوروبية القريبة، وخاصة الإيطالية.
كانت الدول الغربية ولا سيما المتوسطية كفرنسا وإيطاليا، تدرك أن "الإسلام" مكون أساسي في هوية الشعب الليبي، الذي يشكل السنة المالكيون نسبة 80 في المئة من تعداد سكانه، مع وجود مذاهب إسلامية أخرى، وأقليات من الإباضية والمسيحية (ذات الجذور الأوروبية)، فكان الرهان الأوروبي على صعوبة تسلم تيار سياسي "إسلامي" زمام الحكم في البلاد نظراً لكون الشعب متديناً ومحافظاً بطبيعته.
لكن ما لم يكن بالحسبان بالنسبة للدول الغربية، أن تتنامى قوة التيارات الإسلامية الأكثر تشدداً في ليبيا، بسبب الظروف والعوامل الإقليمية والتأثر بها، وخاصة في مصر وتونس، وانتقال المقاتلين الليبيين المعروفين ببنيانهم الجسماني وصلابتهم إلى القتال في سورية إلى جانب بعض المجموعات المسلحة كجبهة النصرة وما يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية"، ثم عودتهم تالياً بعد خيبة أملهم من التناحر والتنافس الفصائلي الجاري، وسعيهم إلى التقاط الأنفاس في مدنهم وقراهم التي تفصل بين الواحدة والأخرى مئات الكيلومترات وكأنها واحات وجزر متناثرة.
الفرع الليبي لما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" منتشر بقوة في مدن عدة مثل درنة شرقاً وصبراتة غرباً، مروراً بسرت في الوسط التي كانت تعد معقلاً لأنصار القذافي. كما يتواجد تنظيم جهادي آخر معروف باسم "أنصار الشريعة" في بنغازي ثاني مدن البلاد، وغني عن القول أن أنصار القذافي السابقين تحالف بعضهم مع بعض تلك الجماعات المتشددة لضمان حمايتهم في مواجهة الإسلاميين الذين تقلدوا الحكم هناك، وبعضهم احتمى بالتيار الليبرالي السياسي الذي كان يقوده محمود جبريل.
فضلاً عن ذلك يحظى "تنظيم الدولة" في ليبيا بمنفذ على البحر في بلد يشكل المصدر الرئيس للهجرة السرية وغير الشرعية إلى السواحل الأوروبية وخاصة إيطاليا. وزعمت نصوص مكالمات تم اعتراضها ونُشرت بإيطاليا أن "تنظيم الدولة" هدد بإرسال 500 ألف مهاجر في وقت واحد في مئات من القوارب، ليكونوا سلاحاً نفسياً ضد أوروبا في حال تم اتخاذ قرار بتدخل عسكري ضد التنظيم بليبيا. وهو ما كشفت عنه خطابات اطلعت عليها منظمة Quilliam المنوطة بمكافحة الإرهاب، وأبرزتها صحيفة التلغراف.
ومع ترقب قرار بضربة عسكرية محتملة قد تكون عربية أو من جانب قوات (الناتو)، صدر بيان سداسي أوروبي ـ أميركي مشترك يدين الأعمال البربرية المستمرة التي ينفذها إرهابيون موالون لـ(داعش) بمدينة سرت في ليبيا.
حكومات فرنسا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة دانت في بيان مشترك أشد إدانة الأعمال البربرية المستمرة التي ينفذها إرهابيون موالون لداعش بمدينة سرت في ليبيا. وقال البيان الذي نشرته وزارة الخارجية البريطانية على موقعها الالكتروني: وتقلقنا جداً أنباء تفيد بأن هؤلاء المقاتلين يقصفون مناطق ذات كثافة سكانية عالية في هذه المدينة ويرتكبون أعمال عنف لترويع المواطنين الليبيين. ودعت الدول جميع الأطراف الليبيين الذين يطمحون لأن يكون بلدهم موحداً وينعم بالسلام للانضمام لجهود مكافحة التهديد الذي تشكله جماعات إرهابية خارجية تستغل ليبيا لأهدافها الخاصة.
التطورات المستنكرة بمدينة سرت تؤكد الحاجة العاجلة لأن تتوصل كافة الأطراف في ليبيا لاتفاق بشأن تشكيل حكومة وحدة وطنية يمكنها، بالعمل مع المجتمع الدولي، لتوفير الأمن بمواجهة الجماعات المتطرفة التي تسعى لزعزعة أمن البلاد.
الجامعة العربية، وبموازاة حرصها على الأمن في ليبيا، لن تصدر أي قرار يخول بعض الدول العربية استهداف المتشددين الذين سيطروا على سرت ودرنة، إلا في حال توفرت لها معطيات وإحداثيات وخرائط لانتشار التنظيم ومواقعه في ليبيا. الجامعة تولي أهمية قصوى للجانب الإنساني في هذه العمليات، لذا في حال قررت الاستجابة لطلب الحكومة الشرعية، فستوكل مهمة الدراسة الميدانية لخريطة انتشار داعش إلى لجنة عسكرية في محاولة لتفادي سقوط أبرياء.
محاربة تمدد ما يسمى تنظيم "داعش" ونزع السلاح المنتشر بكثافة وترسيخ قيم الديمقراطية وممارساتها بشكل سلمي مسارات يجب الالتزام بها دولياً وعربياً لمساعدة ليبيا في تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار في ظل موقعها الاستراتيجي ومخزونها النفطي الهائل، وأي شيء سوى ذلك لن يكون في مصلحة الليبيين لا سيما أن البلاد لا تزال تحت بند الفصل السابع الذي يتيح تدخل الأمم المتحد ومجلس الأمن متى يشاء للسيطرة على الأمور في البلاد، وهو أمر يجمع الليبيون (حتى الآن) على رفضه، لكنه ربما يكون مستقبلاً الخيار الوحيد إن تعذرت كافة الحلول المرحلية والعلاجية الحالية.


هشام منوّر... كاتب وباحث

&