&

يستنكر كثير من علماء الاجتماع التنميط، أو وضع صورة نمطية لشعب معين، وفي الحقيقة أن الصور النمطية تكاد تكون على درجة عالية من المصداقية بأدلة بيولوجية واجتماعية. فعندما نقول يمتاز الشعب السويسري مثلا بأنه شعب متحضر ومبدع، لا يمكن لشخص أن ينكر ذلك، لأن الأدلة المؤيدة أكثر من الأدلة المناقضة. وفي الحقيقة أن رفض الصور النمطية تيار حديث نادى به علماء الاجتماع الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية التي قام قبيلها هتلر بتقسيم الشعوب حسب أفضليتهم، ووضع الجنس الجرماني على رأس الشعوب ألارية ومن ثم الشعوب الأخرى، وكان نصيب العرب هو نهاية سلم الأجناس.&

يشق على المرء الاعتراف بأي اتهام يضعه في نهاية مصاف الشعوب ويبدأ بالدفاع المستميت عن نفسه وعن جنسه وعرقه لأن النزعة إلى التفوق هي نزعة فطرية يسعى إليها الفرد والمجتمع. وإذا كان التفوق ميسورا للفرد بالنظر إلى أنه يمكنه السيطر على العوامل المحيطة به نسبيا، إلا أن تفوق العرق عملية بالغة الصعوبة بالنظر إلى صعوبة ضبط العوامل التي تتدخل في صياغة المجتمع بمجمله. فقد أدخل الطبيب النفسي السويسري كارل يونغ (1875-1961) مفهوم اللاوعي الجمعي أي الكامن في عقلية المجتمع، على خلاف مع سيجموند فرويد الذي عزا تصرفات الإنسان إلى اللاوعي الفردي الذي تراكم من خبراته في طفولته وحياته عموما وظل يمارس مفعوله بقوة طوال حياته.&

فمن وجهة نظر كارل يونغ فإن المجتمع يتشرب الموروث الاجتماعي الذي يدخل في تركيبته الفكرية، ويؤثر على الشخصية ككل، كما تحدث عن النموذج الأكبر (Archetype) الذي يوجد في أدمغة البشر بوصفهم جنسا بشريا، فهناك نماذج الله والشيطان ونصف الأله والأم العذراء والجن والرجل الخارق والأميرة الباهرة الجمال والقلعة المظلمة الواقعة على جبل والمغارات المتداخلة والفقير الذي يجد كنزا والصياد الذي نخرج له حورية البحر وغيرها من النماذج التي توجد في جميع المجتمعات على هيئة صور مختلفة، وجميعها تعبر عن رغبات مكبوتة في أدمغة البشر ككل وتفريغا لحالات الضعف أو اليأس أو الفضول أو الحيرة.&

إذن فالموروث الاجتماعي أو اللاوعي الجمعي هو الذي يجعل هذا المجتمع يختلف عن ذاك، وعلى الرغم من عدم إمكانية التحقق من ادعاء يونغ، إلا أن علم الاجتماع لم يكن يوما علما قابلا للتأكد مخبريا، فما يقوم به عالم الاجتماع هو تجميع البيانات ودراستها لمعرفة التشابه والاختلاف والظروف المحيطة ومن ثم الاستنتاج. فكيف يمكن التحقق من اللاوعي الجمعي الذي يؤثر في شخصية أفراد المجتمع؟

لنفترض أن زوجين هاجرا إلى دولة متحضرة وكثيرة الفرص والحريات وأنجبا صغارا، فما هو مصير هؤلاء الصغار؟ بالتأكيد فإن هؤلاء الصغار سينشأون نشأة مشابهة لأقرانهم وسوف تكون شخصياتهم مشابهة لهم، ولا تشبه العرق الأصلي الذي نتجوا عنه متمثلا بوالديهم. والأمثلة كثيرة جدا عن الناس الذي اختلفت شخصياتهم كثيرا عندما اقتلعوا من بيئة ووضعوا في بيئة جديدة مختلفة، وأبرز مثال هو الزنوج الأمريكيون الذين نرى أحفاد أحفادهم ومنهم الرئيس أوباما الذي نشأ وترعرع على أيدي جديه الأمريكيين البيض، وتشرب جميع أفكارهما وتبنى موقفهما من كل شيء، وهو خريج جامعة هارفارد ولديه ابنتان منعهما من رسم وشم على جسديهما وهددهما بأنه سيرسم وشما على جسده هو وأمهما ميشيل إذا قامتا بذلك، أي أنه لم يضربهما أو يعاقبهما عقابا شديدا، كما هي الحال في بلد جذوره، كينيا.&

لنأخذ مثالا آخر من العرب، فجميع العرب لديهم اقرباء مهاجرون، جعلتهم المجتمعات الغريبة ذوي شخصيات مختلفة تماما عنهم، وقد اختلف مصير أبنائهم من حيث التعليم والعمل والأسرة وطريقة التفكير والسلوك وغير ذلك، أما من بقي في بلاد العرب، فقد أنجب شخصيات مشابهة لهم نسبيا، ولم يتغيروا كثيرا كما تغير أبناء المهاجرين ممن نشأوا في الخارج.&

فما هو المقصود بالتغير؟ (ونقول "التغير" وليس "التغيير" لأن التغير في هذه الحالة يكون تلقائيا وليس متعمدا، لأنه يحدث بسبب اللاوعي الجمعي.) فالتغير يكون من التفكير الغيبي إلى العلمي وبالعكس، ومن الانطواء إلى الانطلاق وبالعكس، ومن ادخار المال لعثرات الزمن إلى الاستمتاع به وبالعكس ومن الخضوع لولي الأمر إلى محاسبته وبالعكس ومن حرية اتخاذ القرار إلى الانقياد وبالعكس ومن العيش مع الأسرة إلى العيش المنفرد وبالعكس ومن ثقافة العيب إلى انعدام العيب وبالعكس ومن العمل في الخفاء إلى الظهور العلني وبالعكس ومن سيطرة الرجل إلى سيطرة الأنثى أو التفاهم الثنائي وبالعكس....... ووووووو&

فما علاقة هذا النقاش بالصورة النمطية التي هي عنوان هذه المقالة؟ العلاقة هي أن المجتمع يمرر اللاوعي الخاص به بشكل غير مقصود فيصيغ شخصية أبنائه بها، فتنتج الصورة النمطية لأبناء مجتمعه، ومن ينكر وجود الصورة النمطية عليه أن يعيد النظر. فعندما نقول الشعب (1) ذكي فهذا يعني أننا رأينا مؤشرات ذلك الذكاء متجلية في إنجازات معينة، وعندما نقول أن الشعب (2) غبي فإننا رأينا ذلك متجليا في أفعال معينة، وكذلك الشعب (3) قوي والشعب (4) ضعيف والشعب (5) كسول وغير ذلك من الصفات.&

ذات يوم قالت لي سيدة فلبينية أن لديهم قواعد أمريكية في الفلبين اسمها القواعد الأمريكية ل"تخنيث" الجيش الفلبيني. فتضايقت من هذا الوصف وسألتها لماذا تقولين هذا؟ قالت لأننا لا نستفيد منها شيئا، بل هي موجودة لحماية مصالح أمريكا ورجالنا أصبحوا نساءا. فشعرت بالمرارة التي تشعر بها السيدة الفلبينية وحق لها، إذ أن أمريكا تقيم قواعد هناك ولكنها لا تساعد الشعب الذي يعاني من كل شيء، ومن وجهة نظر هذه السيدة فقد أصبح بلدها ضعيفا وموبوءا ويصدر أبناءه للعمل في الخارج كخدم وسائقين، ناهيك عن شوارعهم التي أصبحت مليئة بأطفال بدون آباء بسبب تأثرهم بالقيم الأمريكية التي لا تقوم على أي علم أو فكر أو حضارة.&

هناك الكثير ممن يستاءون من التعيم، ولكنني أؤمن به، وإذا تمعن القارئ الكريم في أي شعب سيقوده تفكيره إلى صفة تنطبق عليه وكثيرا ما يصيب هذا القارئ في تعميماته عن الشعوب.&

[email protected]

&

&