في خضمّ التظاهرات الشعبية الجارية في العراق، لابدّ من الإشارة الى جملة من العناصر والمتغيرات الجديدة التي أفرزتها ومازالت تفرزها كلّ أسبوع، قياسا بما سبقتها من تظاهرات ومن حراك واعتصامات منذ 25 شباط عام 2011، ومن الضروري أخذها بنظر الاعتبار من قبل الناشطين والمراقبين عموما، للاستفادة من دروسها المستخلصة، حاضرا ومستقبلا.
العنصر الأول هو حدوثها في مناطق الوسط والجنوب "الشيعي" الموالية افتراضا لحكم الإسلام السياسي ولرموزه الطائفية التي طالما تبجّحت بتمثيلها لهذه "المعاقل"، وللأسف كان للإعلام الحكومي وكذلك للإعلام المضادّ، دورا بارزا في تضليل الرأي العام لتكريسهما معا، فكرة الانقسام المذهبي والطائفي على أساس جغرافي بحت، وتغاضي النظر عن التكوين الاجتماعي العميق لهذه المناطق التي أسبغت عليها قسرا صبغة مذهبية واحدة تشمل قاطنيها جميعا رغم ألوانهم وانتماءاتهم ومشاربهم واختياراتهم الحقيقية والمتنوعة، وكانت هذه الصبغة على الدوام تخدم أمراء الطوائف من جهة، وفي صالح أعدائهم من جهة أخرى. كما كانت هذه البضاعة الكاسدة في سوق الطوائف هي البضاعة الوحيدة التي يتمّ الترويج لها باستمرار، وخصوصا في مواسم الانتخابات، حتى بلغ الأمر حدّا من الصفاقة بأحد هؤلاء المتأسلمين من الدعاة قوله علنا:" حتى لو كان الشيعي فاسدا ولصّا فهو أفضل من غيره وينبغي إعادة انتخابه".
والعنصر الثاني هو الموقف الوطني لمرجعية النجف وتعبيرها عن سخطها المستمرّ وإستيائها من& الإداء الحكومي السابق والجمود السياسي اللاحق الذي يخيّم على البلاد وينذر بمخاطر جدّية. الجديد هو أنّ تحذيراتها هذه المرّة قد كانت بوضوح أكثر من ذي قبل، بالإضافة الى موقفها الداعم لمطالب المتظاهرين المشروعة بما فيها مطلب الدولة المدنية، ودعوتها لمحاربة الفساد والضرب "بيد من حديد" للفاسدين ومحاسبتهم. الدلالة الأقوى في هذا السياق، هو الرفض القاطع من قبل مرجعية دينية لحكم ديني فاسد ولإسلام سياسي فاسد ولرموز دينية فاسدة، باتت& تمعن دون رحمة في الإساءة المستمرّة للدين الإسلامي الحنيف من أجل مصالحها الضيّقة والمرتبطة بأجنّدات وشبكات داخلية وخارجية، لا علاقة لها بالدين ولا بالسياسة ولا بالوطن ولا بالقيّم والأخلاق والضمير.&
أمّا العنصر الثالث الجدير بالملاحظة، هو بداية لخروج الأغلبية الصامتة عن صمتها وانخراطها الواسع في ميدان الصراع واهتمامها بالشأن العامّ، الذي أرادوه حكرا على طبقة سياسية فاسدة، لا تلبث إلاّ إعادة إنتاج نفسها وتدوير مواقعها ومناصبها العليا في الدولة فيما بينها، وهي أغلبية متضرّرة من الأوضاع العامة ومن سوء الإدارة وتردّي الخدمات، وتشمل جمهورا واسعا من الفقراء وذوي الدخل المحدود والخريجين العاطلين عن العمل وعوائل الشهداء والمتقاعدين والأرامل الذين تتزايد أعدادهم دون توقّف بموازاة إرتفاع أرصدة اللصوص والفاسدين من نهب المال العام دون مسائلة أو حساب. وهم بالإضافة للشرفاء من المثقفين والفنانين والإعلاميين والناشطين المدنيين جمهور مستقل عن لوثة الأحزاب السياسية المتنفذة، الأمر الذي يؤكد أكثر فأكثر، مصداقية مطالبها الشعبية العاجلة ومشروعيتها.
العنصر الرابع والأهمّ من حيث الدلالة، هو الطابع الوطني العامّ للتظاهرات ورفضها للشعارات والصور والرموز الخاصة والجزئية، والتفافها كمجموع تحت العلم العراقي رمزا وراية موحّدة للعراقيين والعراقيات جميعا، وكلّما استمرت التظاهرات في زخمها المتواصل ازدادت لحمة العراقيين وتمسّكهم بالفكرة الوطنية التي لا ولم ولن تجهض أبدا بالرغم من كلّ الرهانات الخاسرة على ضمورها.
لا تزال الآمال معقودة على القوى المحلّية لتصحيح الأوضاع وتعديل مساراتها من الداخل، ولاشكّ إطلاقا بصعوبة المهام والملفّات الشائكة والمتعدّدة في مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي، ولكن ليس أمامه الآن سوى علاج المرض وليس تسكين الألم. العبادي لم يعد وحده في المعركة الحاسمة حول الهوية والسيادة وما تبقّى من عراق، لم يعد وحده بعد موقفه الجرئ من قاسم سليماني رمز الهيمنة الإيرانية على القرار السياسي العراقي. لم يعد وحده بعد الآن، لأنّ من أصبحوا معه هم أكثر وأكبر وأعلى صوتا وإرادة من كلّ أحزاب الدنيا.
باريس