ليس جديداً القول بأن الفكر المتشدد معاد للتطور والتحديث والتجديد، بل إن دعاة التجديد يمثلون بعض "الآخر" الذي يرفضه المتشددون وينفرون منه، ويرمونه بالجهل أحياناً والكفر أحياناً أخرى.
ومن ثم فإن إحدى الضروريات في معالجة ظاهرة التطرف الفكري تكمن في ضبط مصطلح "التجديد" وتعريفه كأحد السبل والدروب اللازمة للتخلص من الفكر الأحادي الذي يلوث العقول، ويربط كل محاولة للتحديث والتجديد والتفكير النقدي بتهديد القيم الدينية وربما تلويث الدين نفسه!.
اللافت أن هذا الفكر الأحادي ظل طيلة عقود مضت ينطلق من رفض المنتج الفكري والثقافي لغير المسلمين في مجالات السياسة والقانون والقيم المجتمعية وغير ذلك بدعوة تنافره مع صحيح الدين الإسلامي، ثم عاد هؤلاء ليعلنوا القبول ببعض هذا المنتج حين شاركوا في الانتخابات والعملية الديمقراطية التي ظلت لسنوات طويلة إحدى المحظورات في قاموس التطرف، وذلك من دون أي تفسير أو تراجع معلن واعتراف مسبق بخطأ الموقف الأيديولوجي السابق، ما يطرح بدوره تساؤلاً مشروعاً: هل تغير الدين (وهو الثابت الذي لا يتغير) أم تغيرت أحوال الدنيا وتبدلت المصالح؟.
ومن المثير للسخرية أن بعض منظري التطرف والارهاب يخلطون خلطاً بشعاً في المصطلحات والمفاهيم بين مفهومي "التحديث والتجديد" و"الحداثة"، ورغم تقارب المعني اللغوي العربي للمفردتين، فإن دلالاتهما الثقافية تثير قدر كبير من اللغط، ويستغلها المتشددون في المصادرة على أي فكر ينحو إلى الاجتهاد وإعمال العقل وتجديد الفكر الإسلامي.
وفي اللغة العربية، التحديث هو مرادف للتجديد والتطوير، اما التجديد فتعني ـ كما ورد في قواميس المعاني ـ جدد الشيء: صيره جديداً حديثاً، أي معالجته ونفض الغبار عنه أو إزالة ما يعلق به ليصبح كالجديد، وفي ذلك انتفاء تام لفكرة الخلق من العدم، لكن الحداثة Modernity كمفهوم يلصق به المتطرفون أشد الاتهامات، ربما تبدو ذات دلالة مغايرة لما يروج لها مفاهيمياً في اللغة العربية، فالمفهوم ذا أبعاد غامضة من وجهة نظر منظري التشدد ويثير قلقهم وحفيظتهم بمجرد ذكره، حيث يعتبرونه نقيض للقديم الموروث، ولكنهم للموضوعية لا يقدمون براهين مقنعة في رفضهم للمصطلح بغض النظر عن طبيعته وماهيته الحقيقية وجذوره الغربية، ومن هنا تبدأ المعاناة مع أصحاب هذا الفكر، الذين يأخذون الجميع منذ عقود مضت إلى متاهات ودروب أفضت جميعها إلى ما نحن فيه من عنف ودمار وسفك للدماء على يد أتباع منظري هذا الفكر الضال.
تجديد الفكر الديني مسألة حيوية وربما مصيرية في عصرنا الحالي، ولا تعني مقاربة فكرة الحداثة، ليس لعيب في الأخيرة، ولكن لأن هناك ضرورة لازمة لاستدعاء الأولى والمضي فيها سبيلاً لمعالجة داء التطرف والارهاب. وبعيداً عن الجدل المفاهيمي، فإن التيارات المتطرفة تصر على الزج بمفهوم الحداثة في اي نقاشات تستهدف تجديد الفكر الديني والتخلي عن النقل لمصلحة العقل، ويقوم هؤلاء باستدعاء مفردة "الحداثة" ويلقوا& بها في أتون الجدل والنقاش لإدراكهم المسبق أن المفهوم مثقل بأحمال ثقيلة من الشكوك التي يثيرها هؤلاء ضده، وأقلها أن الحداثة تعنى إخراج الدين من دائرة الحوار والدفع باتجاه العلمنة والفصل بين الدنيا والدين.
الإشكالية في الفكر المتطرف انه يرفض التجديد لأن التجديد في جوهره يعني التعددية، في حين أن التطرف ينطلق من فكر أحادي يحتكر الحديث باسم الدين ويزعم امتلاك الحقيقة المطلقة ويرفض أي اجتهادات أخرى، وهذا الفكر الأحادي ليس فكرا دينياً بالضرورة بل فكر أيديولوجي يرتدي ثوب الدين ويتمسح في العقيدة، فلا أحد يرفض العودة إلى أصول الدين وقيمه الأساسية وجوهره الحقيقي، فهذا هو المحرك الأساسي للتجديد والمجددون في كل العصور، فالتجديد في جوهره كما ذكرت يستهدف نفض الشوائب عن صحيح الدين ومراعاة الواقع انطلاقا من روح الدين، ولكن المتطرفون يوظفون مايتوافق مع أجندتهم الأيديولوجية فقط ومحاولة ترهيب مخالفيهم بورقة مخالفة تعاليم الخالق عز وجل.
ثمة إشكالية أخرى تكمن في شروط التجديد ذاته، وهي شروط تضعه على النقيض من الفكر المتطرف، فالتجديد يتطلب دراسة وفهم الأصول الفقهية جميعها وإدراك أحكامها فضلا عن القياس، وهذا الأمر يتنافر بدوره مع الفكر الأحادي القائم على رأي واحد ومنهج واحد يستبعد مساحات الاختلاف والتسامح التي يفيض بها الفقه الإسلامي.
بعيداً عن الجدل المفاهيمي والاصطلاحي، فإن ما اقصده أن تجديد الفكر الإسلامي لا يعني مطلقاً تجديد الدين، فالثابت لا يتأثر بالمتغير، ولكن الأخير ينبغي أن يراعي معطيات الزمان والمكان ومقتضيات الشعوب الإسلامية ومصالحها.

&